عريب الرنتاوي
صدقاً، لا أدري من هي الجهات التي "تآمرت" على حزب التيار الوطني، ولا الأهداف الكامنة وراء "مؤامرتها" تلك..فالحزب في بيانه، ألمح إلى، ولم يصرح عن هوية هذه الجهات، ولم يكشف لنا عن أشكال تدخلها في العملية الانتخابية، والدور الذي لعبته في إحباط مرامي الحزب للحصول على كتلة وازنة من الأصوات والمقاعد النيابية.
كل من دخل الانتخابات وشارك بها، كان يعرف تمام المعرفة (أو هكذا يُفترض) مضمون القانون الذي جرت بموجبه عملية الانتخاب، والتعليمات الناظمة لعمل القوائم والترشح الفردي وبقية الجوانب المتصلة بالاقتراع، مركزاً وأوراق ومعزلاً وكافة الجوانب العملية واللوجستية..وكان معروفاً سلفاً، أن العديد من القوائم الأوفر حظاً، لن تحظى بأكثر من مقعد واحد في البرلمان السابع عشر، وغالباً على قاعدة "الكسور العشرية"..قلنا ذلك وتحدثنا به، بل وشرحناه لمئات المواطنين الذين تسنى لنا أن نشرف بتأهيلهم وتدريبهم على مهارات العمل الانتخابي.
أنا من بين قلة أو كثرة (لا أعرف)، كنت أستثني التيار الوطني ومعه قائمتين أو ثلاث قوائم من قاعدة الفوز بـ"الكسور العشرية"، بل وراهنت على أن قائمة التيار ستحظى بعدد من المقاعد يتراوح ما بين 4 – 5 خمسة مقاعد، ومن دون تردد كنت أضعها في صدارة القوائم الفائزة في الانتخابات، في الموقع الأول تحديداً.
لكن اتضح أنني وغيري، كنّا مخطئين في الحساب، وكيف لا نخطئ وهي الانتخابات الأولى التي نخوضها بنظام مختلط (برغم هزاله)..وهي الفرصة الأولى التي تتاح لنا للدخول في "معركة الأحجام والأوزان"..وأحسب أن المفاجأة كانت ثقيلة على التيار وقيادته ومؤسسيه، الذين طالما نظروا لأنفسهم وحزبهم، بوصفهم رقماً صعباً في المعادلة في الداخلية، يصعب تجاوزه (كما جاء في بيان التيار)، بل وربما كان الوحيد المؤهل (أو هكذا يُظن) لخلق "المعادل الموضعي" للحركة الإسلامية بثقلها الوزان والمعروف.
وأجدني متفقاً مع بيان الحزب، بأن القانون جائر ومتخلف، ويصعب معه التعرف بدقة، على أحجام القوى ونفوذها وأوزانها..وربما لهذا السبب، من بين أسباب أخرى، كنت شخصياً أميل لمقاطعة الانتخابات من المشاركة فيها..لكن أما وقد ارتضت بعض القوى والتيارات السياسية والحزبية الدخول في "المعمعمة"، فإن من المنطقي مدّ الأمور على استقامتها، والقبول بقواعد اللعبة والاحتكام إليها.
ليس من المجدي الحديث عن "انتخابات مزورة"، فالتزوير حصل في القانون نفسه، وكان يتعين أخذ الموقف قبل الانتخابات وليس بعد إعلان النتائج..فهذا من شأنه إضعاف موقف الحزب وصدقيته، وضمّه إلى قائمة "الغاضبين" و"المحتجين" على النتائج، بدافع الخسارة، وبدافعها وحدها، وهذا لا يليق بالحزب ولا بشخصياته الوطنية التي نحترم، وعلى رأسها بالطبع المهندس عبد الهادي المجالي، الرجل الذي إن اختلفت أو اتفقت معه، يبقى رجلاً صاحب مبادرة وحضور متجدد.
أذكر حواراً جانبياً مع "الباشا" على هامش دعوة غداء في المدينة الرياضية، أقامها الحزب عند تأسيسه، لكتاب وصحفيين وإعلاميين..يومها سألت: أين سيتموضع هذا الحزب وكيف سيقدم نفسه، حزب سلطة أم حزب معارضة، وهل سيلجأ إلى أدوات المعارضة وأساليبها إن هو ظل خارج الحكومة، وهل من المقبول والمنطقي، أن يكون الحزب خارج السلطة ولا يكون في المعارضة؟..أسئلة وتساؤلات مستوحاة من تجربة الحزب الضاربة في جذور "العهد" والحزب الوطني الدستوري...وأذكر يومها أنني قلت لـ"الباشا" أن "السيستم" لا يحتمل أحزاباً وازنة، إن لم تستطع أن تفرض نفسها في الشارع، حتى وإن كانت بزعامة "الأم تيريزا" وليس الإخوان المسلمين..لا أدري إن كان "أبو سهل" يذكر حديثنا ذاك، لكن تفاصيل هذا النقاش عادت إلى ذاكرتي كشريط سينمائي، وأنا أقراء عبارة وردت في بيان التيار، تحمل معنى الشكوى والاتهام لجهات لا تريد للأحزاب الكبيرة أن تأخذ حيزها ومساحتها على الخريطة السياسية والحزبية الأردنية.
على أية حال، دعونا نعترف بأن الحزب "هُزم" في الانتخابات الأخيرة..وكنا نفضّل لو أنه اعترف بالهزيمة من دون اتهامية "بأثر رجعي"..كنا نود أن نقرأ عبارات تتحدث عن "مراجعة" و"إعادة تقييم وتقويم" لتجربة الحزب، لمعرفة أين تكمن عناصر قوته وأين هي نقاط ضعفه بالذات..وفي ظني أن المأزق الأول والأهم في تجربة حزب التيار الأولى (الدستوري) والثانية، يتجلى في إخفاقه في الاتكاء على قواعد شعبية حقيقية، فالحزب بنى نفوذه وعضويته اعتماد على الثقل العشائري والحمائلي والجهوي لرموز لم تلتق على رؤية فكرية وسياسية عميقة، ليثبت بعد الانتخابات، أن هذا الأمر، لا وزن له في عمليات الاقتراع، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالقوائم..ثمة مياه كثيرة جرت تحت جسور المجتمع الأردني، أحسب أن قيادة التيار لم تحصها على نحو صحيح، ولم تدرس أثرها في تحديد الاتجاهات التصويتيه للناخب الأردني.
وثمة مأزق ثانٍ للحزب في مرحلتيه الأولى والثانية، يتجلى في عدم نجاحه في اختراق حواجز "الأصول والمنابت"، طغت عليه صورة وهوية معينة، ولم تفلح عملية "التطعيم" التي حرص الحزب عليها، أشد الحرص، في جعله "وطنياً"، أي بمعنى عابراً لمختلف مكونات المجتمع الأردني.
وثمة مأزق ثالث في تجربة الحزب، وتتجلى في كونه "حزب سلطة" من "خارج السلطة"، فلا هو نجح استخدام أدوات السلطة (لأنه خارجها) في الترويج لبرنامجه واختبار شعاراته..ولا هو امتلك أساليب المعارضة وأدواتها وشعاراتها، ومن بينها "الشارع" للذود عن حقوق المواطنين ومصالحهم..لقد ظلّ حزباً نخبوياً محلقاً في الهواء، ولم يستطع أن يزرع أقداماً ثابتة على الأرض، فجاءت هبوب صناديق الاقتراع لتعصف بصورة الحزب وهيبته ومكانته.
الحل ليس بالحل (حل الحزب)، ولا بإغلاق فروعه في المحافظات، ولا بالانسحاب من العملية الانتخابية "بأثر رجعي"..ومن باب أولى ليس بإعلان صيحات الغضب والاتهام..الحل بالمراجعة والتقييم والتقويم..ابتداء من سؤال: هل نجح قادة التيار في بناء حزب سياسي، أم أنهم اكتفوا بإنشاء صالون سياسي موسع، لنخب وشخصيات، يثبت بالملموس، أنها استمدت ثقلها من مناطقها وعشائرها وحمائلها، وليس من "برنامجها الوطني" أو "توجهها السياسي"..فهل سينسحب الحزب من الحياة السياسية، أم أنه سيعمل وفقاً لقاعدة "رب ضارة نافعة"، و"الضربة التي لا تُميتك تقويك"..سؤال برسم قيادة الحزب والأيام المقبلة.