عريب الرنتاوي
تميزت الذكرى الخامسة لاندلاع شرارات الربيع العربي، بكثير من “البكائيات”و”المراثي”، من نائحٍ على الربيع الذي انقلب خريفاً، إلى مروّج نشط لـ “نظرية المؤامرة” و”المخططات مسبقة الصنع”، إلى إحصائي، يجمع كل شاردة وواردة عن الخسائر التي ألمّت بالأمة، بفعل “ربيعها” ... حتى أن كثيرين أخفقوا في محاولاتهم إخفاء نبرة الحنين إلى الماضي، ولولا بقايا “حرج”، لقالوا “سقا الله أيام مبارك وبن علي وصالح والقذافي”.
نسي هؤلاء، أو أنستهم التطورات الدامية التي شهدتها السنوات الخمس الفائتة، أن ثورات الربيع العربي، لم تكن “خياراً” بل “ضرورة”، أملتها عقود الركود والاستنقاع المديدة والمريرة، التي اكتوت شعوب الأمة خلالها، بنيران الفساد والاستبداد والتهميش والتخلف والتبعية والفشل في مختلف مناحي التنمية وميادينها ... نسي هؤلاء أو تناسوا، أن “عرب ما قبل الربيع” قبعوا واستقروا في أسفل حواشي كتب التاريخ والحاضر والمستقبل ... نسي هؤلاء أو أنستهم الأحداث المتسارعة، أن جيلاً كاملاً من الحكام العرب، كان يُعد العدة لنقل السلطة بالتوريث إلى جيل الأبناء “الطائشين”، الذين ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، من عدي وقصي في العراق، إلى باسل وبشار في سوريا، مروراً بسيف الإسلام والساعدي في ليبيا، عطفاً على أحمد علي عبد الله صالح في اليمن، من دون إغفال مسلسل التوريث في مصر، والدور الذي اضطلع به الثنائي علاء وجمال مبارك، والأنسباء والأصهار في تونس، الذين جمعوا المجد من طرفيه: المال والسلطة.
والأصل، أن خروج ملايين المواطنين الغاضبين إلى الشوارع والميادين، في تظاهرات سلمية، تحوّلت معها ساحات التحرير (القاهرة) والتغيير (صنعاء) والحبيب بورقيبة (تونس) وغيرها، إلى أيقونات عالمية، ما كان يستدعي أو يستجر بالضرورة كل هذه الخسائر والويلات التي ألحقت بشعوبنا ومجتمعاتنا ... لكن “التآمر” على الربيع العربي من جهة، وتكالب الأنظمة المستبدة في الدفاع عن حصونها وقلاعها من جهة ثانية، ومحاولات امتطاء صهوة الشوارع العربية الغاضبة من قبل قوى دينية متطلعة للتمكين من جهة ثالثة، واصطراع الأجندات الإقليمية والدولية في المنطقة وعليها من جهة رابعة، كل ذلك، أسهم في إغراق المنطقة، ببحر من الصرعات والحروب الأهلية وموجات الإرهاب المتعاقبة، ما أفضى إلى كل ما شهدنا وعرفنا من أزمات وكوارث وويلات.
لقد أخطأنا إذ ظننا أن الثورات المليونية كفيلة بإحداث التغيير المُشتهى في غضون بضع سنين، وأن سلمية الثورة في جميع البلدان التي انطلقت فيها ومنها، هي الضامن للانتقال الديمقراطي، السلس والسلمي والتوافقي ... وإذ قدّر بعضنا أنه يتعين على المجتمعات أن تدفع أثماناً لا يُدّ للانتقال من الاستبداد إلى الحرية، إلا أن أحداً لم يخطر بباله، أن تكون كلفة هذا الانتقال، باهظة إلى هذا الحد، لم يتخيل أحد، أن طريق المجتمعات إلى الحرية والديمقراطية، سيكون شاقاً ومريراً وطويلاً على النحو الذي تبين لنا بعد عام أو عامين على إضرام البوعزيزي النار بنفسه... لم يتوقع أحد أن تقابل الثورة السلمية، ومنذ أيامها الأولى، بالحديد والنار، لا في اليمن ولا في سوريا وليبيا.
لم ندرك تمام الإدراك، حجم الخراب الذي ألحقته أنظمة الفساد والاستبداد الراكدة، ببنية الدولة والمجتمع العربيين على حد سواء، ظننا أن الخراب مقيم في “البنى الفوقية” لمجتمعاتنا ودولنا، ولم نتلمس حجم الخراب الذي تراكم في “بناها التحتية” ... تحدثنا عن “فشل دولة ما بعد الاستقلالات”، ولم نتوقف طويلاً أمام عمليات التجريف والتجويف، المنهجية المنظمة، التي شنتها نظم الفساد والاستبداد على نخبنا السياسية والثقافية والأكاديمية، بحيث لم تُبق احزاباً سياسياً (غير الحزب القائد) ولا منظمات مجتمع مدني ولا قضاء نزيها أو إعلاما مستقلا ... أنظمة اختزلت الشعب بالطبقة الحاكمة، والطبقة بحزبها، والحزب بالعائلة، والعائلة بـ”ربها”، القائد/ الضرورة، ومن بعده انجاله، بعد مرحلة انتقالية، لعب فيها الأشقاء وأبناء العمومة والخؤولة، دوراً مركزياً بانتظار “نضج” الأبناء، من وطبان وبرزان، إلى جميل ورفعت، مروراً بقذاف الدم وأركان بيت الأحمر وآل مخلوف وآل الطرابلسي والقائمة تطول.
ولم نتعرف على حجم الأطماع الخبيثة في النوايا الخبيئة لدول جوارنا الإقليمي، حتى بدأت أحوالنا بالانكشاف ... إيران، دولة المركز الشيعي، تسعى في جعل الشيعة العرب، رؤوس جسور لنفوذها ... وتركيا تجد في موجة الربيع وصعود الإخوان وانهيار سوريا، بوابة لإعادة انتاج “عثمانية جديدة”... وإسرائيل، الجار المزروع بقوة الحديد والنار، تسعى في تعميم “النكبة” على مختلف الأقطار والأمصار العربية، وحتى إشعار آخر.
حتى إذ انهار المبنى بسقوط “حجر سنمّار” أو انتزاعه من مكانه “السرّي”، تحولنا إلى شيع وقبال متحاربة، يقتل بعضنا بعضاَ على “الهوية”، لنفاجئبأن هوياتنا الوطنية الجامعة والجمعية، لم تكن سوى سراب وخيوط دخان، وأن وظيفتها تكاد تختزل بكونها مادة دسمة لـ “الأغاني والأناشيد الوطنية” المصحوبة عادةً، بالاستعراضات العسكرية المهيبة ... فالزعماء الملهمون، لم يتركوا وراءهم سوى “العشيرة” و”الطائفة” و”المذهب” ... ولم يخلفوا بعد هبوطهم الاضطراري عن مقاعدهم الوثيرة، سوى القصور والسجون والمساجد والحسينيات ودواوين العشائر ومجالس الطوائف والمذاهب.
والحقيقة أن المتأمل في جذر “الإعاقة المزمنة” التي أصابت مجتمعاتنا، يجد أنها تمتد إلى “ما قبل مرحلة الاستقلالات”، فنحن أمة أخذتها “الحداثة” على غير استعداد منها، وهي الخارجة لتوها من ربقة الاستعمار الغربي و”مشرط سايكس – بيكو” و”لغم بلفور” مطلع القرن الماضي، وقبلها عقود الذل والتخلف العثمانية، خصوصاً في سنوات الرجل المريض، لتأتي “الاستقلالات” بأنظمة الجنرالات والانقلابات العسكرية، التي قطعت الطريق على “النهضة والأنوار”، وأدخلت المدينة العربية منذ مطلع النصف الثاني من القرن الفائت، في مرحلة مديدة من “الترييف”، لتعقبها في المنقلب الأخير من سبيعنياته، مرحلة طويلة هي الأخرى، من “البدونة” المصاحبة لثورة النفط والسلفية التي هبت رياحها الصفراء من عمق الصحاري والرمال.
ويسألونك بعد ذلك عن الربيع العربي ... بل ويمضون حتى نهاية الشوط في تدبيج بيانات النعي لثورات الشوارع العربية وانتفاضاتها، مع أن جذوتها لم تنطفئ بعد، وهي تتنفس اليوم في شوارع القدس والخليل وغزة، مثلما استعادت بعضاً من روحها في حراك بغداد وبيروت الشبابي المدني قبل أشهر، والمؤكد أن الشعوب التي غادرت “ثقافة الخوف” و”الاسترقاق”، لن تعود إلى سكونها وسكينتها قبل أن تنتزع حقوقها التي عرفتها وتعرفت إليها... وإن بعد حين... وإنْ بثمن مكلف... وإنْ بخطوة للأمام وخطوة للوراء.