هل تعرفون ما هو أكبر خطر يمكن أن يصيب أى حاكم منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة؟
علمياً هو «الخلل فى الإدراك المعرفى»، وفقهياً هو «الكبر»، الذى يجعل الحاكم يعيش ويفكر ويحكم برغباته وقواعده بالمخالفة للعقل والمنطق والدين.
كارثة أى عقل سياسى هى أن تعتقد أنك تمتلك الامتياز الحصرى للحقيقة.
الكارثة الكبرى أن تعتقد أنك وحدك دون سواك الذى يمتلك ناصية الصواب، وبالتالى تطوع وتلوى أعناق الوقائع والحقائق مهما كانت صريحة وواضحة ومنطقية، من أجل أن تصنع قانونك أنت وعالمك الافتراضى الذى تحلم به وتريده، وليذهب كل شىء وأى شىء وأى مصالح أخرى إلى الجحيم.
هذا بالضبط ما يعانى منه العقل السياسى لفخامة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان!
يعيش «أردوغان»، بعدما أسكرته كؤوس النجاح الاقتصادى الذى يعود إلى «تورجوت أوزال»، و«نجم الدين أربكان»، و«أحمد داوود أوغلو»، و«عبدالله جول»، وفريق كبير من كبار المستشارين الأتراك والأجانب، هذه الحالة التى تسمى علمياً بخلل فى الإدراك المعرفى.
علمياً، تعالوا نتعرف على معنى الإدراك العقلى:
«إن الإدراك العقلى هو إدراك المفاهيم والمسلمات والحقائق والمعانى الكلية العامة لمفاهيم الحياة والمنطق، وهو أمر عقلى مسئول عن المحسوسات المادية، وهو أمر يقوم على استنباط المعانى الكلية المجردة».
والخلل فى هذا الإدراك يأتى من:
1 - نوعية الذاكرة.
2 - اتجاهات الفرد.
3 - الأمراض العضوية والتأثيرات النفسية.
فى حالة «أردوغان»، فإن الطفل الذى ولد فى 21 فبراير 1954 فى مدينة إسطنبول عاش حياة بسيطة مع والده أحمد فى «قاسم باشا»، الذى كان بالكاد يوفر لزوجته «تنزيل»، والأبناء والبنات: سمية وبلال وأحمد براق ورجب، الاحتياجات الأساسية.
تربى الصبى رجب فى صعوبة من الحياة، مما اضطره إلى أن يعمل فى صباه بائعاً على عربة يد «للبطيخ»، حتى يوفر لقمة عيشه.
تأثر فى جامعة «مرمرة» بدراسة الاقتصاد، وفكر أصول جماعة الإخوان، التى تأسست عليها الأحزاب الثلاثة التى انضم إليها:
1 - حزب الرفاه من 83 إلى 1998.
2 - حزب الفضيلة من 98 إلى 1998.
3 - وأخيراً حزب العدالة والتنمية من 2001، حتى يومنا هذا.
ولا بد من الاعتراف بأن شخصية السياسى، الاقتصادى، الشاعر، ودعم الرفاق المؤسسين له، أدت إلى إحراز نجاح حقيقى لحزبه والاقتصاد التركى.
هذا النجاح الملحوظ، الذى ظهر فى معدلات التنمية، وشعبية حزبه، وتنامى الدورين الإقليمى والدولى، جعله يبدأ فى رحلة الشعور بتأثير خمر النجاح منذ عام 2007.
هذا كله جعل الرجل تزداد عنده حالة أنا وحدى صاحب الصواب، والملهم من السماء بالحق، والقادر على إعادة بناء إمجاد آل عثمان من خلال مشروعه الذى أعلن عنه، وهو «تركيا الكبرى».
«تركيا الكبرى» تعنى باختصار 4 عناصر خارج العقل والواقع فى شريعة القانون الدولى:
1 - أن خلافة آل عثمان التى امتدت من 1566 انتهت فعلياً فى حروبها الأوروبية فى ما عُرف بالحروب التركية العظمى، ثم ظهرت حالة المسألة الشرقية، التى أدت إلى تنازلها عن نفوذها وأراضيها التى اقتسمها «العدو» الأوروبى بعدما أصبحت تركيا هى رجل أوروبا المريض.
2 - أن مناطق النفوذ يجب أن تعود، لأن «العرب» الذين كانوا يتبعون للخلافة «أضاعوا حقوقهم ويمثلون حالة من الضعف والاستضعاف» -حسب رأيه- وأن الحل التاريخى لهم هو إنهاء الحالة العربية وإدخالهم فى الحالة الإسلامية.
3 - أن الخليفة العثمانى الذى كان فى سابق العهد المسئول عن رعاية مكة والمدينة، وكان «خادماً للحرمين» يجب أن يستعيد هذه الخلافة مرة أخرى، ليس عبر نظام حكم آل سعود والملكية، ولكن عبر الخلافة العثمانية الجديدة، وفكر التنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين بنسخته التركية!
4 - أن الحدود المستقرة التى تم ترسيمها عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية هى فعل من أفعال الاحتلال والاعتداء على حقوق ومناطق نفوذ «تركيا المريضة»، وأنه قد حان الوقت لاستعادة النفوذ، وتغيير الخارطة والحدود والأنظمة بالقوة لإنقاذ المنطقة من نفسها وإدخالها فى «عظمة وقوة» تركيا الكبرى!
باختصار، هذا مشروع «أردوغان» القائم على خلل عظيم فى الإدراك المعرفى لواقع الحال وقواعد عالم اليوم ومتغيراته.
إنه العالم الافتراضى الذى يسكن عقل وروح ونفسية رجب طيب أردوغان.
من هنا يمكن تفسير حالة التشدّد والتطرّف والعناد وكثرة الاشتباكات السياسية مع الأمريكان والروس والأوروبيين وحلف الأطلنطى والألمان والهولنديين والكنديين واليونانيين والقبارصة والمصريين والإماراتيين والسعوديين وقائمة لا تنتهى من الدول والمنظمات الدولية.
كل هؤلاء -من وجهة نظر الرجل- على ضلال وخطأ جسيم، وهو وحده دون سواه الذى على صواب.
من هنا يمكن أن نفهم رغبة الرجل المستميتة فى إعادة نفوذ العثمانيين على كركوك والموصل وشمال سوريا وتونس ومصر والحجاز، كخطوة أولى لبناء إمبراطورية يتحدى بها دول الاتحاد الأوروبى، التى ترفض إعطاءه عضوية فيه.
نحن، أى العالم العربى، أرض خلافة مستحقة، سلبت من تركيا «الرجل المريض»، والآن قد حان -وقد استعاد «أردوغان» قوتها- أن تعود إلى تركيا «الرجل القوى» من خلال مشروعه المعروف بتركيا الكبرى.
ذلك كله يفسر الحماقة التركية الكبرى فى اتفاقيتى الغاز والأمن مع حكومة «السراج».
اليوم يعود مفهوم رجل أوروبا المريض ليتحقق على يد «أردوغان»، يعود ذلك المصطلح الذى أطلقه نيكولاى الأول قيصر روسيا على تركيا سنة 1853.
وهذا يمكن أن يؤشر لنا أن تركيا الآن فى عهد «أردوغان» ليست الرجل القوى، ولا هى الرجل المريض، ولكن الأكثر مرضاً!
طالما أن «أردوغان» وحزبه فى السلطة لن ترى المنطقة العربية سلاماً ولا خيراً مع أنقرة، ولا يمكن أن نثق فى أى اتفاقات يمكن أن يوقع عليها أو يشارك فيها، سواء كانت فى موسكو أو برلين.