من المقصود بالترصد والعداء والعقوبات: السعودية كدولة؟ القيادة كحكام؟ النظام الملكى كنظام؟ مشروع الإصلاح بحد ذاته؟ ولىّ العهد بشكل شخصى؟ الدور الإقليمى السعودى كدور؟ مشروع إضعاف السنّة المعتدلين لصالح جماعات الإرهاب التكفيرى؟
ما السبب الحقيقى؟
يقول علم الفيزياء، بناء على رؤية العالم العبقرى «ألبرت أينشتاين» إنه «لا يمكن تفسير أى حادث أو أى ظاهرة من خلال قصر هذا التفسير على سبب واحد فقط».
باختصار: «أى ظاهرة أو حدث ليس لها مسبب واحد، ولكن عدة أسباب مختلفة».
من هنا يصبح من التسطيح الفكرى أن نقصر ما يحدث من جنون هستيرى فى العالم منذ اغتيال الزميل جمال خاشقجى -رحمه الله- على سبب واحد دون سواه.
إن رد الفعل تجاه المملكة يرجع إلى عدة أسباب مختلفة، يمكن تحديدها تحت هذا العناوين:
أولاً: أنها جريمة مروعة، غير مبررة، ولا يمكن الدفاع عنها.
ثانياً: أنها تختص بدولة أساسية ذات تأثير حيوى فى العالم والمنطقة والأسواق والعالم الإسلامى، أى إن الجريمة منسوبة إلى السعودية والاتهام لسعوديين، والضحية سعودى، وتمت فى القنصلية السعودية، أى -قانوناً- ارتُكبت على أرض سعودية.
ثالثاً: أن هناك دولاً لها ثأر جديد قديم مع السعودية، وهى تحديداً إيران، تركيا، قطر.
رابعاً: أن هناك دولاً ترى فى الرياض أكبر خزانة أموال على ظهر كوكب الأرض، وأن حادثة خاشقجى هى فرصة العمر لابتزاز هذه الخزينة.
خامساً: أن هناك أعداء فى كل مكان وزمان لأى مشروع إصلاحى تغييرى مثل ذلك الذى يقوده ولىّ العهد السعودى بقوة واندفاع شديدين.
لذلك يجب -من منظور أعداء الإصلاح- أن يتم ضرب المشروع أو تعطيله أو إسكاته.
كل هذه العناصر اجتمعت لتجعل الملف شديد السخونة، خاصة أنه جاء فى توقيت انتخابات محلية وتشريعية فى ألمانيا، والولايات المتحدة، وفى ظل أزمة «البريكست» فى بريطانيا، وفى ظل أزمة استقالات حكومية فى فرنسا، وعقب توتر فى العلاقات بين السعودية وكل من ألمانيا وكندا.
وجاءت أيضاً واقعة جريمة خاشقجى بعدما وجّه ولى العهد السعودى أقوى رد سياسى لرئيس أمريكى رافضاً دفع «إتاوة مالية ثمناً لما سماه ترامب بالحماية الأمريكية للرياض».
هذا كله شىء، وهذا كله فصل سابق، والآن ندخل جميعاً إلى فصل جديد فى هذه المسألة، وهو فصل «حجم ومستوى العقوبات» التى ستُفرض بناء على الحادث.
هنا، وهنا فقط، سوف تعرف الرياض، وسوف نعرف جميعاً بما لا يدع مجالاً للشك، من يبحث -حقاً- عن العدالة فى حد ذاتها، ومن يريد تصفية الحسابات، ومن يبحث عن تصفية حسابات شديدة؟ ومن يريد ضرب مشروع الإصلاح الداخلى فى المملكة؟ ومن يريد ضرب معسكر تحالف الاعتدال العربى؟
موقف كل طرف سوف يكون كاشفاً تماماً لحقيقة نواياه وطبيعة مواقفه من المملكة، وقيادتها، ومشروعها الحالى.
من هنا لا عجب، مثلاً، أن تقرأ رد الفعل الفورى من النيابة التركية التى تريد أن يتم تسليم المشتبه فيهم أو المتهمين السعوديين الموقوفين قيد التحقيق للمحاكمة فى تركيا، وكأن تركيا هى «قبلة العدالة التى يحج إليها أصحاب المظالم».
وتناست السلطات التركية أنها تضع 110 آلاف موقوف ما بين السجن والاعتقال والإيقاف، وتنسى أنها عزلت 15 ألف قاضٍ، وأبعدت 25 ألف ضابط جيش وشرطة من رتب مختلفة، وأنها أبعدت أكثر من 50 ألف موظف عام، وأكثر من عشرة آلاف أستاذ جامعة ومدرس، وأكثر من خمسة آلاف صحفى.
وتناست السلطات التركية تقارير منظمات حقوق الإنسان عن حالات الاختفاء القسرى والاحتجاز دون محاكمة.
وفى ذات اليوم الذى جاء فيه تعقيب وزير الخارجية التركى على البيان السعودى الذى يحدد الجريمة والجناة وملابساتها ويحدد الأدوار والتهم، قال وزير الخارجية التركى فى ذات التصريح: «إننا لن نسكت»، وإن بلاده لن تلتزم الصمت تجاه الأعمال والجرائم التى تُعتبر غير إنسانية فى اليمن.
وتناسى معالى الوزير التركى جرائم بلاده غير المبررة ضد الأكراد فى العراق وسوريا، وضد المدنيين فى المدن التركية الحدودية الملاصقة لسوريا والعراق.
أما أكثر ما يتحدى العقل فهو التعليق على بيان النيابة العامة السعودية من باب التشكيك الكامل فيه، وكأنه شر مطلق ما دام لم يوجه إدانة للحكم فى البلاد.
ويتناسى هؤلاء أن البيان السعودى هو نتائج التحقيق الذى يشكل التهم والإدانة التى على أساسها ستتم محاكمة المتهمين بالتهم المنسوبة إليهم. إن هناك محاكمة عادلة سوف تتوفر لها كل الشروط القانونية والشرعية، مما قد يلقى ضوءاً أكبر ويعطى تفاصيل أكثر عن حقيقة ما حدث ويجيب عن تساؤلات كلنا نبحث عن إجابات شافية عنها.
لذلك كله من المخيف حقاً أن يتم التعامل مع تقرير النيابة السعودية على أنه الملف النهائى لتحديد الوقائع والتهم والمسئوليات والأحكام النهائية الباتة.
ومثلها مثل كل الجرائم الكبرى التى تتداخل فيها السياسة مع الإعلام مع الأمن تكون هناك -دائماً أو أحياناً- أسئلة كثيرة حائرة تبحث عن إجابة.
وحالة جريمة خاشقجى ليست حالة شاذة فى هذا المجال، تعالوا نستعرض الكثير من الوقائع والجرائم التى امتزج فيها الدم بالسياسة بالعمليات الأمنية بالاغتيالات، وحتى الآن لم تعرف البشرية أى إجابات نهائية عنها:
1- اغتيال الرئيس جون إف كنيدى.
2- اغتيال قاتل كيندى.
3- محاولة اغتيال أمير الكويت الأسبق.
4- من دس السم للرئيس ياسر عرفات؟
5- الجهة التى دلت على مكان اختباء الرئيس معمر القذافى.
6- من دس حقائب المتفجرات فى طائرة «لوكيربى» التى ما زال يتم تداول المعلومات والاتهامات فيها حتى الشهر الماضى، والتى تمت فيها تبرئة السلطات الليبية.
7- من الذى أمر بقتل الرئيس أنور السادات؟
8- من الذى وفر السم للمشير عبدالحكيم عامر.
9- حقيقة تفاصيل جريمة قتل «المبحوح» بواسطة الموساد فى مدينة «دبى».
10- كيف، ومن أمر ومول وخطط ونفذ قتل الرئيس رفيق الحريرى؟
هناك آلاف الأسئلة فى مئات الجرائم السياسية فى التاريخ الحديث ما زالت تبحث عن إجابات رغم مرور سنوات وسنوات عليها، ليس مجرد 6 أسابيع فقط.
هذا كله لا يمنع أن العدالة مطلوبة، وأن الجريمة غير مبررة، وأن الحق لا بد أن يأخذ مجراه، ولكن الذى نقوله للجميع بأعلى صوت: «ألا يجب أن تكون العقوبة مساوية للجريمة؟ وهل يمكن أن يعاقب نظام وشعب بشكل أبدى ثأرى؟».
نقلا عن الوطن
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع