هناك قصة تراجيدية مؤلمة تخصصنا نحن معشر العرب فى الوقوع فيها -دائماً- وهى أن يفاجئنا الحاضر لأننا لم نستعد -من قبل- لفهم المستقبل!
التعامل «يوم بيوم»، مواجهة الأحداث من منطق «رد الفعل»، وليس «الفعل»، أسلوب إدارة الأزمة بعد أن تحدث وليس قبلها، أن نفقد دائماً وأبداً تحذيرات أى إنذار مبكر، هذا كله هو كارثة وآفة المنطقة التى نعيش فيها!
فوجئنا بضربة إسرائيل فى يونيو 1967 للمطارات رغم أنها صورة طبق الأصل لضرب المطارات فى حرب 1956.
لم نصدق أنفسنا عندما غزا صدام حسين الكويت رغم أنه صرح بذلك علناً مراراً وتكراراً ذات التصريحات التى رددها نورى السعيد فى الستينات على أن الكويت هى المحافظة العراقية رقم «19».
تعجبنا من غزو الأمريكان للعراق رغم أن مركز دراسات «بروكنجز» نشر دراسة مطولة وقدم لها فى ندوة عامة علنية فى صيف 1982 يتحدث فيها عن خطة الغزو الأمريكية للعراق.
فاجأنا سقوط الاتحاد السوفيتى القديم لذلك فوجئنا بقوات لا تعرف كيف تتعامل مع النظام الجديد.
تغافلنا عن مشروع الاستيطان الإسرائيلى لقضم الأراضى العربية فى فلسطين التاريخية، رغم أن مركز دراسات جامعة تل أبيب له خرائط دقيقة وكاملة حول مواقع وحجم وتوقيتات بناء هذه المستوطنات منذ العام 1962.
لم نصدق أن إدارة ترامب سوف تنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتل، رغم التعهد الصريح الواضح لترامب ونائبه مايك بنس فى خطاب علنى مذاع عام 2015 أمام آلاف الأعضاء فى منظمة «الأيباك» اليهودية الأمريكية الصهيونية.
تاريخ العرب الحديث خلال المائة عام الماضية يتلخص فى 3 مسائل:
1- تجاهل وجهل بالواقع.
2- عدم استعداد لفهم المستقبل.
3- التخصص فى إضاعة الفرص التاريخية.
هذا المثلث القاتل المدمر هو التحدى الأكبر للعقل السياسى العربى، سواء كان للحكومات أو النخبة السياسية.
وحتى لا يضاف إلى رصيدنا السلبى فى استقراء المستقبل، علينا هذه المرة أن نستعد جيداً لعالم ما بعد الكورونا.
إنه -بلا شك- عالم جديد، بقواعد سياسية مختلفة، وتوازن قوى متغير، وأسلوب حياة مستحدث، ومعايير استثنائية للحكم والحكومات والعلاقات الدولية.
هذه المرة المتغيرات هائلة، وإيقاع التحولات فيها أسرع من كل مرة سابقة.
من هنا يصبح الخطر داهماً إذا جاءت المتغيرات متلاحقة أسرع من قدرتنا على الفهم والاستيعاب والتعامل معها.
وفهم العالم الجديد، بقواعده، التى يتشكل بعضها الآن، وما زال فى حركة السيولة بانتظار النتائج يتطلب توفير أفضل العقول العلمية العربية لقراءة المستقبل.
منذ أكثر من 40 عاماً ظهر علم المستقبليات، وهو العلم الشامل الذى يعنى باستشراف رؤية وتحديد شكل الآتى بهدف حسن الاستعداد له والقدرة على التعامل السليم الإيجابى معه.
من كبار مؤسسى علم المستقبليات العالم الكبير «هيرمان كان» الذى أصدر كتاباً مرجعياً بعنوان «العالم فى المائتى عام المقبلة».
فى هذا المؤلف الهام حدد هيرمان كان شكل العلاقات الدولية، وتوازن القوى، والقوى الصاعدة، والأخرى المتراجعة وشكل الاقتصادات وتركيبة المجتمعات ومعايير القيم التى سوف تسود.
بعد «الكورونا»، ذلك الزلزال الكاشف الذى تعدى مسألة الوباء الصحى، إلى كونه حدثاً فاضحاً للثغرات الكبرى فى أنظمة الحكم الديمقراطية وأنظمة الصحة العالمية، وفشل إدارة الأزمة على المستوى العالمى، فإن تغييرات جذرية سريعة، أسرع من الصوت، سوف تتلاحق على مضمون وشكل وقواعد النظام العالمى.
ولو كنت من معالى الأستاذ أحمد أبوالغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، لما انتظرت انعقاد قمة عربية، وقمت على الفور بعمل خلية أزمة من كبار العلماء والمفكرين العرب لصياغة تقرير معمق يعتبر بمثابة «تقرير للأمة حول عالم ما بعد كورونا وكيفية تعامل العرب معه».
وأحمد أبوالغيط، مثقف سياسى، ووزير خارجية أسبق، ومهتم بشكل شخصى بعلم المستقبليات، ويدرك الأهمية القصوى لهذه المسألة.
بداية الخيط، والانطلاق السليم نحو أى منهج صحيح للإدارة هو فهم الواقع وحسن تقدير المستقبل والاستعداد له.
لقد فقدنا مائة عام من الفرص الضائعة فهل نفقد -إلى الأبد- المستقبل القريب والبعيد؟
الفهم العلمى للآتى هو مسألة حياة أو موت.