لا يحكم أى حاكم وحده، ولكن بواسطة مساعدين، جهاز إدارى، مستشارين، أدوات تنفيذية، سلطة فرض السلطة، سلطة تطبيق القانون.
ليس المهم ماذا يريد الحاكم؟ وليس كيف يفكر؟ ولكن الأهم ما يريد مساعدوه، وكيف ينصحه مستشاروه، وما هى حيدة وصفاء وعدم تلون قاعدة المعلومات التى يتزود بها كل صباح ومساء كى يبنى عليها قراراته.
للحاكم، أى حاكم، مدخلات تسبق إصدار القرار، إن صحت، وإن كانت دقيقة، وإن صدق النصح والمشورة، كانت قراراته النهائية أقرب للصحة والدقة والسلامة وفى التوقيت المناسب.
المسألة ببساطة مدخلات ومخرجات، مقدمات ونتائج، معلومات ونصائح، وبدائل وتوقيتات، وحساب تكاليف دقيق للآثار الاجتماعية، وردود الفعل السياسية، والحسابات الاقتصادية.
من هنا تصبح الحلقة الضيقة المحيطة بصانع القرار، أى صانع قرار، على أى مستوى، فى أى زمان ومكان، هى مسألة حياة أو موت.
الشورى فى الفقه أمر أساسى، لكنها فى النهاية ليست ملزمة لولى الأمر الذى يتحمل تبعات قراره أمام خالقه، وأمام شعبه، وأمام سلطة القانون.
لا يمكن للمستشار أن يجمع بين الاستشارة والسمسرة، أو الاستشارة والتجارة، لأن النتيجة ستكون كما قال ابن خلدون: «المسئول إذا أصبح تاجراً، فسد الحكم، وفسدت التجارة»!!
من هنا يتعين علينا أن نعود إلى ما هو متعارف عليه علمياً وبشكل متجرد فى تحديد تعريف المستشار:
«هو الذى يؤخذ رأيه فى أمر مهم أو فنى أو سياسى أو ذى تخصص دقيق».
ومهام المستشار هى:
1- تقديم المعلومة الدقيقة الصحيحة فى الوقت المناسب لاتخاذ القرار.
2- طرح الخيارات المكملة أو البدائل المتاحة لصانع القرار، وتحديد آثارها على المدى البعيد أو القصير.
3- العمل على إيصال مشاعر وردود فعل المجتمع تجاه قراراته بأمانة وتجرد.
ويلعب الحاكم الدور الأساسى فى اختيار نوعية مستشاريه، وتصبح القرارات فاسدة حكماً إذا أساء الحاكم الاختيار.
وتصبح المسألة كارثية إذا طبق الحاكم مقولة توفيق الحكيم: «بعض الحكام لا يريدون من المستشار تفكيره ولكن تفكيره الموالى له».
سقطت حضارات ودول وحكومات وأنظمة بسبب فساد الحلقة الضيقة التى تحيط بالحاكم والتى جعلت من نفسها «الباب الملكى» للدخول إليه، و«البوابة الحصرية» التى من خلالها يتم تشكيل قراراته والتأثير الأساسى فى توجهاته.
مثلاً كانت أهم وأقوى دول العرب والمسلمين دولة الأندلس التى تأسست عام 711 ميلادياً على يد القائد طارق بن زياد، وهو الاسم الذى أطلقه المسلمون على شبه جزيرة «إيبيريا».
قام طارق بن زياد بضم هذه الجزيرة للخلافة الأموية، وظل المسلمون يحكمونها حتى سقطت عام 1492م.
سقطت الأندلس لأسباب عديدة أهمها: البعد عن صحيح الدين الإسلامى، والترف المخيف، والتنازع بين ملوك الطوائف وموالاة الأعداء، وتقاعس العلماء والمفكرين عن لعب دورهم الدعوى والإصلاحى.
سادت هذه الدولة العالم، وكانت منارة للحضارة والفكر والطب والعسكرية والفنون والتراجم والموسيقى، وكان يُنظر إليها فى أوروبا على أنها شعلة التنوير ومركز القوة فى العالم لفترة اقتربت من 700 عام.
وكان «سقراط» يرى أن الحكم لا يسقط من أعلى، ويمكن أن يبدأ فى السقوط من قاعدة النظام التى تبدأ بمساعدى الحاكم.
وكانت حكمة نيكولو مكيافيلى العظيمة فى كتاب «الأمير» وهو ينصح الحاكم ذات دلالة عبقرية، حينما قال: «إن أول طرق تقدير ذكاء الحاكم تنظر وتتأمل لنوعية من يحيطون به فى أماكن صناعة القرار».
والمتأمل لتاريخ الأندلس، وهو أمر يُكتب فيه مئات المجلدات وآلاف الأبحاث، سوف يجد أنها قامت على العقل المستنير وليس السلاح الفتاك، وسقطت لفساد العقول والضمائر.
المستشار، على أى مستوى، إذا كان فاسداً صاحب مصلحة خاصة، سوف يكون -حكماً- صاحب نصيحة فاسدة مثله لأنها ستكون معبرة عن مصالحه الشخصية التى قد تتعارض مع الصالح العام.
المستشار الفاسد قد يطرح على الحاكم مجموعة بدائل تبدو -للوهلة الأولى- على أنها بدائل للاختيار، لكنه سوف يسعى بشره شديد ومهارة فائقة فى «دس السم فى العسل» ويدفع خيارات الحاكم نحو الخيار الذى يريده أو المشروع الذى سوف ينتفع منه «من تحت الطاولة».
كان مستشار ألمانيا الأسبق هيلموت كول يقول: «قل لى من هم فريق عملك، أستطيع أن أعرف أى إنسان أنت، وأى نوعية من الحكام ستكون».
الحلقة الضيقة المحيطة بصانع القرار فى الحكم، أو حكومة، أو وزارة، أو هيئة، أو شركة، أو إدارة عليا، تلعب دوراً أساسياً فى تكييف اتجاهات، ومزاج، ومدى صواب أو خطأ صانع القرار.
ويقولون دائماً فى علوم الإدارة الحديثة إن الشىء الوحيد الأسوأ من القرار الفردى هو سوء اختيار المساعدين وتغليب المصالح الشخصية والعائلية والاستقواء بالأعداء ضد الأشقاء من أجل الحكم بأى ثمن.
سقطت الأندلس من داخل قصور حكامها قبل أن تسقط عام 1492م بعد حصار غرناطة على يد قوات الملوك الكاثوليك.
إذا تحول مستشار الحاكم إلى تاجر يتاجر فى مصالح الرعية، ويبيع أملاك الدولة مقابل سمسرة وعمولة، ويبيع سيادة الأوطان للخارج فسد الحكم، وفسدت الرعية، وأصبح سقوط الدولة وانهيار الحضارة مسألة وقت.
لذلك ليس غريباً أبداً أن يدعو خطيب الجمعة للحاكم بأن يرزقه بالبطانة الصالحة التى تصدقه القول.