بقلم : مصطفى الفقي
يقولون عنها إنها «كنانة الله فى الأرض»، و«المحروسة» دائمًا، وهذه ليست عبارات إنشائية فارغة المضمون، ولكنها توصيف صحيح لمكانة «مصر» جغرافيًا وتاريخيًا، ثقافيًا وحضاريًا، وقد أوجع الانفجار الإرهابى فى «الكنيسة البطرسية» منذ أيام قلب «مصر» المثقل بالآلام والمعاناة والهموم، وقد قفزت إلى ذهنى تلك الأعداد الكبيرة من قوافل الشهداء التى قدمتها «الكنيسة القبطية» منذ عدة قرون عندما كانت كلمة «عصر الشهداء» تشير مباشرة إلى فترة اضطهاد «الرومان» للمسيحيين المصريين، حيث تدافعت مواكب الشهداء باسم الدين، ولكن ها هم الآن يُستشهدون باسم الوطنية المصرية، ولقد تابعت جدلاً مريضًا فى الأيام الماضية حول ارتباط الضحايا الأقباط بكلمة الشهداء، وكأنما نستكثر على مَن فقدناهم أن يُرصِّع الوطن أسماءهم بعبارة الشهيد!.
وبالمناسبة فهى ليست عبارة دينية يرى الناس أنها صك رحيل إلى الجنة، ولكن الأمر يختلف عن ذلك، فالاستشهاد درجة من درجات الوطنية ورتبة من رتب التميز فى خدمة الوطن والموت فى سبيله، فالشهيد- مسلمًا أو مسيحيًا- حسابه عند ربه، ولكنه يحظى بالمكانة العليا عند وطنه، إذ لا تعلو على الشهادة منزلة أخرى، فهى أعلى الأوسمة الوطنية وأشرفها على الإطلاق، لذلك نردد دائمًا عبارة: (المجد للشهداء)، فـ«الشهادة» ليست منحة دينية فقط، ولكنها وسام وطنى يحمله كل مصرى يمضى إلى رحاب ربه قتيل حرب أو ضحية إرهاب.
إن «مصر» تواجه أعتى التحديات، إذ تَنَكَّر لها بعض الأصدقاء، وخاصمها بعض الأشقاء، ولكنها تظل صامدة صلبة تقف على أعمدة قوية، شيدتها الحضارات المتعاقبة، وصاغتها آمال شعب يسعى من أجل الحياة، وهو يدرك أن الفجر يلوح فى الأفق، وأن الشمس- وإن غابت بعض الوقت إلا أنها- ستشرق من جديد، إننا نقول ذلك، ونحن نعلم أن الأوطان لا يبنيها إلا أبناؤها، وأن الكرامة الوطنية لا تحافظ عليها إلا شعوبها، ولن تعيش «مصر» على القروض الأجنبية أو المعونات الأخوية، وعلينا أن نحمد الله أن الأمور تكشفت، وأن الصورة غدت واضحة أمام كل ذى بصيرة، ولم يعد لدينا إلا مزيد من الدم والعرق، ولا أقول الدموع، لأن كبرياء أحفاد الفراعنة يجعل بكاءهم عملًا مستمرًا وإخلاصًا حقيقيًا وإصلاحًا جذريًا فى كافة نواحى الحياة، بعد أن تفرغوا طويلًا للثرثرة وترديد الشعارات الجوفاء وتكرار صياغات لا معنى لها، فأصبح من المتعين علينا أن نُحيل لقب «ناشط سياسى» إلى «مُنتِج وطنى»، كما أن الثورة ليست عملية مستمرة، ولكنها بوابة لطريق طويل من الإصلاح والبناء والتشييد والعمران حتى تتحول إلى ثورة صناعية وثورة زراعية وثورة خدمية تنتشل التعليم والصحة والعشوائيات وترفع قيمة الوطن فى كافة المجالات، وليسمح لى القارئ بأن أطرح أمامه محاور ثلاثة للإصلاح فى المجتمع المصرى:
أولًا: إن الإصلاح الثقافى يجب أن يتصدر قائمة أولويات تحركنا نحو المستقبل، إذ إن جزءًا كبيرًا من أزمتنا يكمن فى التقاليد البالية
والأفكار العتيقة والرؤى الضبابية، فضلًا عن شيوع الخرافة وغياب النظرة العلمية للحقائق والآراء، لذلك فإن ما نردده فى الفترة الأخيرة حول «تجديد الخطاب الدينى»، إنما هو إشارة مباشرة إلى حياتنا الثقافية وأمراضنا الاجتماعية، لأن الدين مُكوِّن رئيس فى تشكيل وجدان الشعب المصرى وتحديد هويته، والمقصود هنا هو رفع درجة الاستنارة وتسليط الضوء على صحيح الدين واستيعاب مقاصد الشريعة وإعمال فقه الأولويات، لأن نبى الإسلام هو الذى قال: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، ونحن نبحث عن تحويل التدين إلى طاقة إيجابية تدعو إلى الفضيلة وتحض على مكارم الأخلاق وتهذب الأجيال الجديدة بدلًا من التطرف والغلو والعنف والإرهاب، فتلك مفردات ننأى بالدين الحنيف عنها، فهو أسمى من أن يهبط إليها أو ينزلق نحوها، لذلك فإن الإصلاح الدينى والاجتماعى هما أمران متلازمان، ولنا فى الإمام المجدد «محمد عبده» قدوة ومثل!.
ثانيًا: إن الشعوب كالجيوش تمشى على بطونها وتسعى لتلبية احتياجاتها، ويجب أن تأكل مما تزرع وأن تلبس مما تصنع، لا أن تتحول إلى تجمع استهلاكى ضخم يستورد كل احتياجاته ويعيش عالة على غيره، فالنهضة الاقتصادية الحقيقية هى التى تقوم على التوسع الزراعى والصناعات الغذائية، وتعطى عملية التصنيع عمومًا وزنها الحقيقى فى إطار التنمية الاقتصادية، لأن الصناعة وحدها هى التى تُحيل العلم النظرى إلى تكنولوجيا عملية، خصوصًا أن لدينا كوادر فى كافة المجالات، وقد يكون عنصر «التدريب» أحد الاحتياجات المُلحِة لإعادة تأهيل مئات الألوف من الخريجين العاطلين وتحويلهم إلى قوى منتجة فى مجتمع يحتاج إليهم.
ثالثًا: إن التخلف السياسى هو جوهر البلاء ومصدر الشقاء، لأن الإرادة السياسية هى صانعة التحول إلى الأفضل، كما أن الأجواء العامة والبيئة السياسية تفتقر إلى المفهوم الحقيقى للحرية، على اعتبار أن حقوق الإنسان قد أصبحت بُعدًا أساسيًا فى تكوين المجتمعات وتقويم مسار الشعوب، لذلك فإن الإصلاح السياسى يتصدر قائمة العوامل الأخرى فى إطار العملية الإصلاحية الشاملة، التى تقوم على رؤية متكاملة وإرادة صادقة.
إننى من المؤمنين بالوطن المصرى والقدرة الهائلة لأبنائه على ولوج طريق المستقبل، كما أننى مدرك جيدًا طبيعة المصاعب التى تواجهنا والتحديات التى تعترض طريقنا والمعاناة التى يتحملها شعبنا، ولكننى أقول لهم جميعًا ما قاله «أبوالقاسم الشابى»:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر!
المصدر : صحيفة اليوم السابع