بقلم : مصطفى الفقي
مع حرارة جو يونيو ولهيبه المستعر عادت بى الذاكرة إلى مثل هذه الأيام من عام 1906، حيث وقعت مأساة «دنشواى»، تلك القرية الآمنة الوادعة فى «مديرية المنوفية» والتى شاء القدر أن تصبح مسرحًا لحادث مستقر فى ذاكرة المصريين رغم مرور أكثر من مائة وإحدى عشرة سنة على وقوعه، والقصة معروفة للجميع عندما كان بعض الضباط الإنجليز يصطادون الحمام فى ربوع «دنشواى»، وخشى الفلاحون من أن تؤدى طلقات الذخيرة إلى اشتعال أجران المحاصيل ووقوع حرائق تؤدى إلى كارثة، وكان أن أصيب أحد الجنود الإنجليز بضربة شمس وهو يبتعد عن غضب الأهالى وكان من نتيجة ذلك سقوطه متوفى من تأثير الإجهاد وحرارة الجو،
عندئذ قامت الدنيا ولم تقعد وتشكلت محكمة عاجلة أصدرت حكمها بالإعدام شنقًا وعلنًا فى موقع الحادث على أربعة من الفلاحين الأبرياء وسجن آخرين وجلد البعض الآخر، والغريب أن المحكمة التى أصدرت تلك الأحكام القاسية وغير العادلة قد تضمنت تصديق وزير الحقانية «بطرس باشا غالى»، بل ويتردد أن «فتحى زغلول» شقيق زعيم الأمة- الذى أصبح بعد ذلك بسنوات قليلة- كان عضوًا فى هيئتها، ونعلم أن «مصطفى كامل» الزعيم الشاب الثائر قد استغل تلك الحادثة المروعة للتنديد بالوجود البريطانى فى «مصر» واتخذ من «فرنسا» منبرًا قويًا لإدانة الدولة المنافسة لها استعماريًا وهى «بريطانيا»، بل لقد كانت «دنشواى» هى أعظم معارك «مصطفى كامل» وأكثرها التصاقًا بتاريخه الوطنى القصير، حيث وافته المنية بعد مأساة «دنشواى» بأقل من عامين،.
ولقد ظلت فاجعة «دنشواى» متمركزة فى الذاكرة المصرية لا تبرحها مع السنين أو مرور الأيام، وقد جسد الحادث ما قاله أمير الشعراء صاحب العبقرية الفذة فى قصيدته الشهيرة التى يستهلها (يا دنشواى على رباك سلام .. ذهبت بأنس ربوعك الأيام)، ويمضى أمير الشعراء فى تلك البكائية الوطنية ليوقظ الضمائر الحية ويلفت الأنظار إلى فداحة الجريمة التى ارتكبها الاحتلال فى إحدى قرى «وسط الدلتا»، ولقد دعتنى كلية «الدراسات الشرقية والأفريقية» التى تخرجت فيها فى جامعة «لندن» لإلقاء محاضرة تذكارية فى الذكرى الخمسين لـ«حرب السويس» عام 2006 وبدأت حديثى عن مضى نصف قرن على «العدوان الثلاثى» على «مصر» وتداعياته ثم تطرقت قائلًا: إن ذكرى «حرب السويس» بعد خمسين عامًا من وقوعها تذكرنا بما هو أفدح وأخطر وأكثر ألمًا وهو حادث «دنشواى» الذى كان قد وصل إلى الذكرى المئوية له فى ذات العام الذى كنا نحتفل فيه بنصف قرن على «العدوان الثلاثى»، وطالبت أصدقاءنا فى «المملكة المتحدة» فى إطار تحسن العلاقات بين الدولتين وانتهاء المشكلات القائمة بينهما إلى إصدار اعتذار رسمى عن مذبحة «دنشواى» ومؤامرة «السويس» معًا، ولقد تضمن الكتاب التذكارى الصادر عن جامعة «لندن» احتفاءً بتلك المناسبة تسجيلًا لما ذكرته عن الحدثين دون حذف أو تحريف لأن الأحوال قد تغيرت والدنيا قد تبدلت وأصبحت المكاشفة والمصارحة هما الأساس المتين لبناء علاقات قوية بين الأمم والشعوب، إننى إذ أكتب اليوم عن «دنشواى» لا أنكأ جرحًا قديمًا ولا أفتش فى الذاكرة عن مبرر قد يؤدى إلى ما يعكر صفو العلاقة مع دولة أخرى ولكننى أتمنى على الجميع فهم طبيعة الدور المصرى حتى لا أقول ذات يوم: ما أشبه الليلة بالبارحة، إذ إن «لندن» هى أكثر عواصم العالم فهمًا لطبيعة «الشرق الأوسط» وما يدور فيه كما أنها طرف فاعل فى تاريخ معظم أحداثه ومشكلاته، بل إن من يرد فهم «الشرق الأوسط» فعليه أن يلجأ إلى الوثائق البريطانية، وهو ما فعلته طوال ست سنوات كاملة متنقلًا بين مكتبة المتحف البريطانى ومركز الوثائق القومى فى لندن باحثًا ودارسًا فى قضايا المنطقة وسياساتها وبالتحديد الدولة المصرية الحديثة وما مرت به وما تعرضت له، ويكفى أن نتذكر أن داهية السياسة والدبلوماسية «هنرى كيسنجر» كان يمر على العاصمة البريطانية فى طريقه إلى «الشرق الأوسط» يستقى المعلومة ويستلهم النصيحة ويمر عليها فى طريق العودة لتحليل الأحداث وتصور المستقبل، كما أن «برنارد لويس»، شيخ المؤرخين الغربيين وأخطرهم، هو نتاج للتعليم البريطانى الذى ينتمى إليه، ولقد حضرت أكثر من لقاء معه جعلنى أكتشف كل يوم أن ذلك المؤرخ السياسى قد أسهم فى تحديد خطوات الغرب بمنطقة «الشرق الأوسط» ووضع الأسس لسياساتها المستقبلية، وأختتم هذه السطور مرددًا البيت الثانى لأمير الشعراء فى مرثيته لشهداء «دنشواى» قائلًا: (عشرون بيتًا أقفرت وانتابها .. بعد البشاشة وحشة وظلام).
وتبقى الذاكرة الوطنية حية، وإن كنا نطلب منها أحيانًا أن تغفر وأحيانًا أخرى أن تنسى!.
المصدر : صحيفة المصري اليوم