أهمية اللغة في تاريخ الحضارة:
بعد تأكيد ضرورة الأخذ بقوانين الفكر ومنهجيته في الدراسة الأدبية وأهمية ذلك في تقسيم المعاني لإقامة حدود الألفاظ، للتواصل من خلال «الماهيّات» إلى بيّنات واضحة وأحكام معقولة وجليّة... ننتقل في هذه المرحلة من المنطق الصوري إلى «الاستقراء»، واستخلاص «المفاهيم» استعداداً لولوج آفاق هذه الدراسة، بأبعادها المتشعبة، ملتزمين في هذا الجانب قواعد «علم الأصول» لمعرفة الدلالات التي تحملها مادة «البحث» من الناحيتين اللغوية والفلسفية، وما لحق بها من تكيّف، بحكم التطوّر في تاريخ الفكر.
وشيء آخر حريّ بالنظر، تلك الصلة التي تربط النقد الأدبي بالتاريخ، وهي ليست موضع جدل، لأن الآثار الأدبية تشكّل جانباً أساسياً في التراث الفكري للشعوب، فالآداب، في شموليتها، كانت ولا تزال مقياساً لدرجات الرقيّ التي وصلت إليها الأمم ومرآة لمقوّمات الحضارة التي حققتها على الصعيد العالمي. وطبيعي أن تحتل اللغة مركزاً خاصاً في حقل هذه الاداب ومضمار تلك الحضارة، بوصفها الأداة المعبّرة عن الاتجاهات الفكرية التي لا قوام لأي مجتمع بدونها، فهي «من أعرق مظاهر الحضارة البشرية... وأول حلقة في سلسلة النشاط الإنساني، وجزء هام من السلوك البشري، فلها دورها في العلوم... ولها شأنها في تكوين المجتمعات الإنسانية... ولها أهميتها في كل صور الرقيّ البشريّ».
هذا الترابط الوثيق بين اللغة والأدب في تاريخ الحضارات يخوّلنا أن نقرّر بأن «المعجم التاريخي» للغة ما، إنما هو وجه معبّر عن مدى ازدهارها، ومستوى تجربتها في المحيط الإنساني، فبدونه يفقد الفكر القدوة على الابتكار، ويتأخّر عن مواكبة مسيرة التطوّر، باعتبار «ان اللغة ظاهرة إنسانية» اجتماعية كالعادات والتقاليد والأزياء ومرافق العيش، وبها نستقصي الملامح المميّزة لكل مجتمع». وواضح من كلام الدكتورين ريمون طحان وصبحي الصالح ان قيمة اللغة منوطة بدورها الاجتماعي ووظيفتها في التفاعل الحضاري، ففي: العالم المعاصر أكثر من ثلاثة آلاف لغة، ولكن هذه اللغات يقتصر استخدامها على أعداد محدودة من البشر... وهناك إحدى عشرة لغة من هذه اللغات - ومنها العربية - ... يُمكن وصفها بأنها من اللغات الدولية، فاللغة الدولية لا لتتحدّد مكانتها بانتشارها وعدد أبنائها فحسب، بل لتتحدد مكانتها بأهميتها الحضارية واقبال غير أبنائها على تعلّمها والتعامل بها. فاللغة لا تعيش إلا في جماعة لغوية ولا ترقى إلا بالإنسان.
محاكمة اللغة العربية:
ومع إن اللغة العربية تدخل في عداد اللغات العالمية الحيّة، فإن نفرا من المفكرين، وبينهم «الألسنيّون» يأخذون على هذه اللغة - في حاضرها - قصورها في ميدان المعاصرة، وتعليل هذا العجز يعود إلى ظاهرتين:
- في الظاهرة الأولى: لا مناص من الاعتراف بأن اللغة مثل أي كائن حيّ، خاضعة لقوانين التطوّر وسنّة النشوء والارتقاء، أو بالأحرى يجب إخضاعها لهذه القوانين.
- في الظاهرة الثانية: تجب ملاحظة النموّ المتزايد للإستنباط العلمي واكتشافاته في عصر تقدّمت فيه وسائل البحث، وتزايدات قدرة الإنسان على تخطّي الظواهر الكونية إلى إدراك عللها وفهم أسرارها.
أمام هذين الوصفين: حاجة اللغة للتطوّر، وسرعة نموّ الدراسات العلمية، وبالتالي إتساع مجال «التقنيات»، وتزايد المصطلحات - لا بدّ من التفكير بضرورة التوفيق والجمع بين الحاجة والتكيّف. وواضح أن غياب هذا التوفيق يضع اللغة العربية في موضع الإتهام لتباطؤ استجابتها لأغراض العلم الحديث، بالقياس إلى الجهود التي تبذلها اللغات، اليوم، حتى تبقى قادرة على أداء دورها الحضاري. قد يكون للغتنا أمام محكمة الحضارة بعض العذر الذي يدرأ عنها أحكام الإدانة الشديدة أو الصارمة، كلما رفعت قضيتها أمام منصة التاريخ. إلا أن هذا العذر لا يغيّر من الحقيقة الصارخة شيئاً ولا يعفي حماة اللغة الغيارى على مصيرها من التبعة الملقاة على عواتقهم، والمسؤولية التي يتوجّب عليهم النهوض بها، والتي تتلخص بادئ ذي بدء بالإذعان لسنّة التبديل والتغيير، وبالعمل ثانياً على دفع اللغة في مسيرة التحضّر لتكون منافساً كفوءاً في حلبة التقدّم والإزدهار:
فقد واجهت «العربية» حقبة طويلة من الإهمال خلال العصر الذي اصطلح على نعته بالإنحطاط، والذي امتدّ نحواً من ستة قرون، أناخت على صدر اللغة بكلكل دهري فصمدت أمام هذا الزمن بالقياس إلى العلوم اللسانية والدينية، ولكنها حين استفاقت من رقادها العميق وجدت نفسها تعاني من الشيخوخة والهرم في ميادين العلوم العقلية، وغير مؤهّلة لخوض الأبحاث الاجتماعية والإنسانية، فضلاً عن حقول العلوم البحتة. وهي لم تكد تستعيد منذ قرن حتى الآن بعض ما فاتها في الماضي البعيد حتى وجد القيّمون عليها أنها تعاني أمام صدمة الحداثة، من قصور مدقع يحول بينها وبين مجاراة قضايا العالم المعاصر بعد القفزة الهائلة التي قفزها الغرب في آفاق الاكتشاف والاختراع، في عصر تفجير الذرّة وارتياد الفضاء ورصد المدارات والمجرات الكونية النائية. وقد لاحظ الدارسون ان اللغة العربية ليست في عزلة عن التطوّر العلمي وحسب، بل باتت ترتاب من كفاءتها في التعبير عن زمرة العلوم التقليدية وعن زمرة علوم الأدب التي تعقّدت أحياناً أكثر من تعقّدها في العلوم البحتة. فأين موضع هذه اللغة من سائر اللغات التي أكسبها التطوّر العلمي رصيداً هائلاً من المرونة والتكيّف والقدرة على التحوّل؟ أين هي على سبيل المثال مما جرى في علوم المنطق والاجتماع والعلوم اللسانية.
فالمناطقة - بتأثير لايبنتز (1646 - 1716) يستخدمون اليوم رموزاً شبيهة بالرموز الرياضية، مستعينين بالمنطق الصوري، والرياضي. وهم بذلك إنما يدأبون على تعزيز لغة المنطق، الأكثر دقة، ويعملون على تطويرها بعيداً عن اللغة التي ألفها النّاس، لتكون لهم لغة من صنع منطقي، تشكّل نظاماً لسانياً أكثر انفتاحاً. وفي الإطار ذاته راح علم الإجتماع في خضم العلوم التجريبية، يعتمد «أساليب الأحصاء والخطوط البيانية»، بينما نهجت الألسنية نهجاً علمياً فلجأت إلى العلوم الحديثة لتستعير منها «المعادلات والمختبرات وآلات الإحصاء، والترجمة الآنية...».
في ضوء هذه المقارنة بين واقع اللغة العربية، وغيرها من اللغات التي لا تفتأ في سعي حثيث إلى مزيد من التطوّر والتحديث، نلمس حقيقة المأزق الذي يربك لغة العرب ويجعلها في تُصوّر الكثيرين - قصيرة الباع في معترك الحضارة.
مشكلات اللغة العربية:
تكمن مشكلة اللغة العربية في ضوء الواقع الذي أوجزنا أبعاد الأساسية، في كونها تواجه عند المعنيين بشأنها مسارين متعارضين: قديم وجديد، يتصارعان مشدودين إلى إيديولوجيات متشاكسة، متعددة في أسبابها وغاياتها، فبينما يذود أنصار القديم بكل قواهم عن اللغة الكلاسيكية لأنها شكلها الأصيل أجود مما هي عليه الآن. يدأب أنصار التجديد على إيجاد لغة تنصاع لنظرية الصيرورة وأحكامها. فمشكلة اللغة العربية ترتبط في - جانب منها - بالعداء المستحكم بين القدماء والمحدثين الذين يتبادلون الإتهام وكل ألوان التشنيع. فالقدماء يوجّهون إلى المجدّدين الملامة في خروج اللغة عن قواعدها وما آلت إليه من الضعف. والمجدّدون بدورهم يحمّلون التقليديين سبب جمود اللغة وإبتعادها عن الحياة العامة، ويعلنون فضلهم في إحيائها والحفاظ عليها ما داموا يمدّونها بعوامل التجدد وطرائق التطوير المختلفة، بالترجمة والنقل واعتماد المستحدث من الأساليب في تآليفهم ودواوينهم. وبين هؤلاء المجدّدين أدباء المهجر ومن اقتدى بهم في مواطن الأدب المقيم.
العلّة ليست في جوهر اللغة:
في رأينا أن العلّة الأساسية في واقع اللغة العربية، ليست في طبيعة اللغة أو جوهرها، بقدر ما هي في تزمّت التقليديين وجمودهم، وعدم فصلهم - في معالجة قضايا اللغة - بين كونها لغة الكتاب الكريم والتنزيل، وكونها أداة التعبير عما يستنبطه العقل وتولّده الأحداث والوقائع، في مجرى التاريخ المتدفق أتيّه بلا هواده.
ومع أن جانباً من مشكلة اللغة العربية مرجعه ما أشرنا إليه من ذرائع القدماء التي لا يقرّها التنزيل نفسه... الذي أكد ضرورة الاحتكام إلى العقل، ودعا إلى الإعتبار بقواعده وأصوله، فإن السهم الأكبر من المشكلة مرجعه أحياناً سوء فهم المحافظين عندنا لآراء نفر من جهابذة اللغة القدامى أمثال أحمد بن فارس وابن جني، والأول يقول بأن اللغة «توقيف»، بينما يقول الآخر بأن اللغة «اصطلاح».
قد يهمك ايضا
"البشوت" النسائية تجتاح الأسواق السعودية
أرسل تعليقك