ذكرت مصادر أن لم تكن انتخابات مفتي المناطق أمس معركةً بعناوين دينيّة، بل خاضها المرشحون بـ«زنود السياسيين». علماً أن الدعوة إلى الانتخابات أصلاً هي بأهدافٍ سياسية. كان مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان يُريد تقليص نفوذ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في المؤسسة، وفعلها. وبذلك، قدّم خدمة للسعوديّة مقابل أن يحظى بدعمها المالي والمعنوي
ما كان يريده مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان حصل عليه في أقل من 3 ساعات. «عوّم» نفسه كـ«رجل المهمّات الصعبة» القادر على جمع قيادات الطائفة السنيّة ونوابها ولو حول صندوق اقتراع. رسائل الانتقاد لدريان على وسائل التواصل الاجتماعي والمجموعات الخاصة بالمشايخ على «واتس اب»، تحوّلت إلى رسائل إطراء له بعدما نجح في تنظيم «مهرجان ديموقراطي» لم يجرؤ أي مفتٍ سابق على إجرائه خلال 50 عاماً. بالتالي، صار «حلالاً» عليه الاستفادة من هذه اللحظة «التاريخيّة»، وتقديم أوراق الاعتماد إلى السفارة السعوديّة بهدف الحصول على الثقة المفقودة.
ورغم أنّ السعودية، بحسب المعلومات، لم تكن متحمّسة للدعوة، وإن لم تعلن رفضها لها على عكس الرئيس فؤاد السنيورة الذي جاهر بوقوفه في وجه المفتي ونجح في إقناعه في عدم فتح معركة في صيدا، إلا أنّ دريان كان يريد «جرّها» إلى دعمٍ واضح للحصول على «غطائها الشرعي». وهو مقتنع في قرارة نفسه بأن ما أقدم عليه أمس «تشتهيه» المملكة، فقدّم دار الفتوى لها على «طبقٍ من فضّة». إذ لم يسبق، منذ عام 2005، أن نجح أحد في توجيه «صفعات» إلى الرئيس سعد الحريري كما فعل دريان. فأخرج الأخير رجالات الأول من الدار من دون «ضربة كف» وقلّل بذلك نفوذه في المؤسسة الدينيّة والمناطق. ونصّب السعودية فائزاً أول في انتخابات المفتين كونها «تمون» على كلّ مفتي المناطق الذين يدورون جميعاً في فلكها وغير بعيد عن سفارتها، وإن قالوا عكس ذلك في مجالسهم المغلقة.
أعطى دريان هدية مجانيّة إلى الرياض التي تعيش «عصر انفتاحها» على الشخصيات السنيّة المقربّة منها أو تلك التي كانت تكنّ لها الخصومة، خصوصاً أن سفيرها وليد البخاري يُردّد أنّه يُريد العمل في الأشهر المقبلة داخل المناطق السنيّة. وعليه، صار للبخاري «موطئ قدم» بمعيّة دريان. هذا كلّه يؤشر إلى أنّ الحريري خسر معركته، فيما المعلومات تؤكّد أنّه لم يتدخّل لا من قريب ولا من بعيد في الاستحقاق رغم دخول كوادره والمقربين منه في زواريبه.
أمس، ظهر تيار المستقبل وكأنّه الحلقة الأضعف. كيانٌ خائر القوى غير قادر على إيصال أي مفتٍ واحد إلى أي من معاقله. حتّى أن مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمّد إمام الذي نال دعماً واضحاً من الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، وصل إلى المنصب بمساعدة خصوم المستقبل التاريخيين، ولم يتمكّن من مدّه بالأصوات سوى في المنية. بالتالي، لم يعد دعم المستقبل لأي من المرشحين هو الكلمة الفصل والميزان المرجّح.
وبغض النظر عن موقف المستقبل من إمام، فإنّ الخسارة الكُبرى في طرابلس كانت من حصة النائب أشرف ريفي الذي كان أوّل الداعمين العلنيين لبارودي، ثم الرئيس نجيب ميقاتي الذي حاول كعادته اللعب على الحبال بين إمام والشيخ بلال بارودي. ويقول البعض إنّ ميقاتي وزّع أصواته بالتساوي بينهما حتى يُطبق مقولته إنّ «إمام عيْن وبارودي عيْن»، فيما البعض الآخر يجزم بأنه كان يدرك فوز إمام الحتمي فسلّف من تحت الطاولة بارودي، وجيّر له أصواتاً لينال 28 صوتاً مقابل 82 لإمام.
وإذا كان يُعرف عن إمام أنّه «رجلُ دينٍ وخلق، وكفّه نظيف» ما جهّز له أرضية كافية في الهيئة الناخبة، إلا أنّ دعم النائب جهاد الصمد له ساعده أيضاً إذ إنّه كان من الأوائل الذين أعلنوا تأييداً واضحاً لاسمه، بالإضافة إلى دعمٍ من الناشط السياسي خلدون الشريف الذي حاول أن «يهوّن» عليه معركته في الكثير من المفاصل. أمّا النائب فيصل كرامي فـ«لحّق حاله» في الدقائق الأخيرة، وذلك بعدما انسحب المرشّح المقرب منه سمير كمال الدين قبل ساعاتٍ قليلة من فتح صناديق الاقتراع (ليل السبت)، ما جعله يُسارع إلى الانضمام إلى داعمي إمام.
وباستثناء منطقة حاصبيا – مرجعيون، لم يُحقّق المستقبل أي انتصار يُذكر في الانتخابات. فيما كانت المعركة محسومة وأقرب إلى التزكية لصالح المفتي حسن دلّي الذي كان الأقوى في الهيئة النّاخبة (17 صوتاً من أصل 21) بسبب علاقاته القوية لكونه كان مفتياً بالتعيين على مدى سنوات إضافة إلى نيْله مباركة تيار المستقبل وبقية القوى السياسيّة التي لا يُعد دلي بعيداً منها، ما جعل المرشحين الباقين غير قادرين على منافسته. وهذا أيضاً ما دفع المرشح السابق على لائحة الحريري، عماد الخطيب، إلى التراجع عن خوضه المعركة في وجه دلي بعدما كان غير مقتنع به.
في حين كان الضياع يُسيطر على «المستقبليين» في عكّار، بعد اجتهاد من النائب وليد البعريني في دعم الشيخ أسامة الرفاعي في وجه الشيخ زيد بكّار زكريّا، ما «نخر» في عظام «المستقبليين» الذين لم يثبتوا على رأيٍ موحّد بل كانوا متشرذمين وخاضوا المعركة في وجه بعضهم البعض. بالتالي، توزّعت أصواتهم على المرشحين من دون أن يكون هناك «ضوء أخضر» سياسي واضحاً لصالح أحدهم. وهذا ما ظهر بشكلٍ واضح في عدد الأصوات المتقارب التي نالها المرشحَين مقارنةً مع بقية المناطق، إذ نال بكار 96 صوتاً مقابل 66 صوتاً للرفاعي.
أما في قضاء زحلة – البقاع، فكانت الضربة الأقوى التي تلقّاها «الحريريون» على الإطلاق بعدما خسر مرشّحهم الشيخ طالب جمعة الذي كان قد حصل على وعدٍ من الرئيس سعد الحريري، قبل أكثر من عامٍ ونصف عام، بأن يخلف والد زوجته الراحل مفتي زحلة والبقاع خليل الميْس في الإفتاء، وذلك قبل أن يخرج رئيس المستقبل من الحياة السياسيّة.
انطلاقاً من هذا الوعد، حاول بعض كوادر تيار المستقبل وعلى رأسهم الوزير السابق محمّد رحّال «كسر شوكة» الشيخ علي الغزاوي المدعوم من الوزير السابق عبد الرحيم مراد. وأطلقوا له ماكينة انتخابية كانت بصمات منسّق عام تيار المستقبل في البقاع الأوسط سعيد ياسين واضحةً عليها، وتمكّنت من استقطاب النائب بلال حشيمي.
وأوحى هؤلاء أن عملهم جاء نتيجة غطاء حصلوا عليه من الحريري نفسه. ورغم أنّ هذا الأمر غير صحيح خصوصاً أنّ الحريري لم يتدخّل، إلا أنّ ما عزّز قولهم الجولة التي قام بها الأمين العام للمستقبل منذ أسابيع إلى البقاع والتي سوّق البعض أنّ هدفها هو تقديم الدّعم لجمعة.
وتقول الرواية التي انتشرت في البقاع إن رحّال ورفاقه استحصلوا على دعمٍ مالي من الوزير السابق محمّد شقير الذي زار المنطقة أخيراً والتقى ببعض المرشحين في دار الفتوى في البقاع، فنال هو أيضاً حصّته من الخسارة في أوّل دخول سياسي له على المناطق. إذ لم يتمكّن من إقناع بعض «المستقبليين» في الهيئة الناخبة ورؤساء البلديّات المحسوبين على التيّار في دعم ترشيح جمعة الذي فشل في نيْل نصف أصوات الناخبين، ونال 15 صوتاً فقط من أصل 53.
فيما كانت النتيجة مُخيّبة للقاضي عبد الرحمن شرقيّة بحصوله على 4 أصوات فقط؛ الشيخ الذي كان لا يفوّت مناسبة أو منبراً يعتليه ليُجاهر بـ«حريريته»، بدّدت كوادر المستقبل فرصته في الحصول على دعمها بل نفضت يدها منه، خصوصاً أن اتصالاتهم به كانت محصورة بمحاولة إقناعه.
قد يهمك ايضاً
أرسل تعليقك