بقلم : غسان زقطان
بصعوبة وبعد تردد طويل أنهيت مشاهدة الشريط (اليوتيوب) الذي ظهر على شبكة الانترنت وجرى تداوله على نطاق واسع، شريط لمجموعة من «الذكور» الفلسطينيين الصغار يطاردون عجولاً صبيحة العيد في «خان يونس»، فيما يشبه احتفالاً «شعبياً فلسطينياً» بعيد الأضحى، كما قدمته على اتساع العالم عشرات المواقع الإسرائيلية مع تعليقات بعدة لغات، وقد وصلني شخصياً من أحد هذه المواقع مع شروحات ومقدمة وتعليقات بالانجليزية.
لا يبدو الاستثمار الإسرائيلي للهدية التي وفرها الشريط والتوقيت الذي ظهر فيه، على خطورته ومدى الضرر العميق والشقوق التي سيحدثها في صورة الفلسطيني في العالم، لا يبدو هو الحدث الرئيس حين نفكر بنوع الثقافة التي يتخبط فيها جيل كامل من الشباب الفلسطيني بعد أكثر من 13 سنة من الحصار والاعتداءات المتسلسلة والانعزال عن العالم، مدة كافية لإعادة تشكيل وعي الجيل الذي ولد وكبر في إمارة الإخوان المسلمين، التي اكتمل تأسيسها في صيف 2007 إثر انقلاب نفذته ميليشيات مسلحة.
تتواصل عملية مطاردة العجول وإيذائها في الشريط إلى أن تصل إلى مشهد العجل المطارد منهكاً ومربوطاً بحبل وبرقبة مشدودة، فيما يقوم رجل يرتدي دشداشة مزركشة بذبحه واقفاً بحرفية واضحة، ثم يلوح بالسكين الصغيرة الحادة لجمهور الفتية، الذين ينفجرون بالصراخ والقفز في وصلة هستيرية متصاعدة من الابتهاج.
لقد انتهت المعركة وتم «الانتصار» على العجل دون أن تتلطخ دشداشة الذابح بالدم.
البطل في المشهد هو العجل دون شك، الذي يبدو مرتبكاً تماماً فيما يتقافز «الكومبارس» البشري حوله ويحيطون به ويدفعونه وهم يصرخون بهيستيريا جماعية، العجل لا يبدو عدوانياً أمام عدوانية الجمهور وتعطشهم الغريب لإيذائه ومواصلة تعذيبه، حتى وهو في طريقه للذبح، سلوك الثور الصغير يبدو أقرب إلى الدهشة والارتباك منه إلى فهم ما يجري، وما هي بالضبط غاية هؤلاء المتقافزين حوله، الذين يصرخون ويتمرغون بدمه.
معظم الفتيان الذين ظهروا في شريط مطاردة العجول في مرحلة المراهقة، أقل من الخامسة عشرة أو أكثر بقليل، كذلك الأمر في الصورة من رفح التي تندفع فيها مجموعة من الفتية في الشارع بحماسة غامرة وقد تلطخوا بالدماء، أو اللون الأحمر، إذ بدت الصورة مقصودة تماماً.
بحسبة بسيطة لم يعرف هؤلاء الفتية سوى الانقلاب وحكم حماس وثقافتها التي حولتها إلى سلسلة طويلة من الإجراءات والقوانين، لا يعرف هؤلاء الفتية سوى سلسلة الاعتداءات والاغتيالات والحروب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على مدن وقرى ومخيمات القطاع، لا يعرف هؤلاء الفتية سوى الحصار والتجويع وإغلاق المعابر والبطالة والفقر والتجاهل الغريب لمصائرهم وأحلامهم المحطمة؛ الأحلام البسيطة بالدراسة والسفر والالتحاق بالعالم وفرص العمل.
هستيريا الدم في خان يونس ومطاردة العجول بالسكاكين في تظاهرة «العيد» ومسيرة فتيان رفح، مثيرة للاشمئزاز والخوف معاً. ولكنها في النهاية محصلة طبيعية للثقافة التي أنتجها الانقلاب والحصار والإهمال.
استعادة الوحدة لا تنحصر في الحديث عنها أو الاتفاق حولها. ثمة عمل كثير أعمق وأكثر أهمية من تقاسم الصلاحيات، عمل يقع في صلب مسؤولية المؤسسة الثقافية والتربوية.
الشروخ التي تركتها سنوات طويلة من القهر والتجويع والتسلط والاعتداءات الدموية المتكررة والعزل والتجاهل أكثر عمقاً من مخيلة «المتصالحين».