بقلم : عبير بشير
«المحدلة» المُسماة «قانون قيصر» تبدو زاحفة صوب الدول التي تشترك بحدودها سواء الجغرافية أم السياسية مع سورية، وعلى الأغلب أن من يقود «المحدلة» يخيّر الواقفين أمامها بين أمرَين: إما الانصياع، أو السحق.وليس قانون قيصر محطة عابرة من تاريخ سورية، ولن يمر مرور الكرام، ولكنّه في الوقت عينه لن يدمر سورية التي خاضت حرباً لعشر سنوات وبقيت صامدة. هكذا تقول الدعاية السورية الرسمية، وأن ما يحصل كان متوقعاً وليس جديداً، بل هو واحد من أوجه المواجهة، فبعد العسكر يأتي الاقتصاد، وربما قبله أحياناً، وتقول أيضاً: إن «قيصر»، هذا الذي نهدَّد به، ما هو إلا عبارة عما نسبته 80% حرب نفسية إعلامية و20% أخرى تتوزع بين إجراءات جدية وسقف مرتفع من العقوبات، لكنها على الأعم الأغلب لن تكون بثقل ما أبرم من وثائق عقابية سابقاً، وهي لن تسقط النظام السوري.
ويكشف مصدر سوري رفيع أن سورية تلقت إشارات رسمية لبنانية عبر أكثر من موفد أمني وسياسي، أبلغوها عدم رغبة لبنان الرسمي باتخاذ أي إجراء يتناغم مع القانون الأميركي، وأن الحياة على المعابر الحدودية ستستمر كما هي. في حين أن الحكومة اللبنانية ستسير بسياسة غضّ البصر عن هذا القانون، كون مكوّناتها تعلم أن السير بمثل هذا القانون كفيل بتفجير الحكومة من الداخل خلال ساعات. حيث ينص قانون قيصر الأميركي على أن كل مؤسسة أو دولة تقوم بتأمين مستلزمات للحكومة السورية ستكون عرضة لعقوبات قاسية.
وبحسب السيناريو الذي قدّمه الأمين العام لـ»حزب الله»، حسن نصر الله، في خطابه الأخير، فإن التوجه شرقاً من إيران إلى الصين، والتعامل بالليرة اللبنانية تخفيفاً لإحكام قبضة الدولار على عنق الاقتصاد، هو الرد المتاح في مواجهة الحرب الأميركية الاقتصادية ضد لبنان وسورية، وفي مقارعة «قانون قيصر»!.على أي حال، لم يكن «قانون قيصر» هو المسبب لهذا الانحراف في موقف «حزب الله»، بل هي رغبة مزمنة في إعلان الخيارات بوضوح تحرراً من مسايرات لم تعد تجدي.
وبعيداً عن أهداف نصر الله من كل ما قاله، فهناك من كان يعتبرها جزءاً من شد الحبال، والمناورة في المواجهة مع الأميركيين، أو إعلاناً عملياً لبدء مسار جديد لدور الحزب وموقعه في النظام اللبناني، ووظيفة لبنان الاقتصادية التي تأسست عام 1943، والتي لم تتغير على الرغم من كل التبدلات السياسية والديموغرافية فيه وفي الإقليم.فليس خفياً أن «حزب الله» يرغب بالتوجه شرقاً، ويعتبر في قرارة نفسه أن ينتهي النظام الاقتصادي والمالي اللبناني بشكله الحالي؛ لأنه ينظر إليه كخصم إستراتيجي وأداة أميركية تشكل نقطة ضعف له في المواجهة، لكن الحزب المتكيف دائماً مع الظروف يعرف توقيت معاركه بدقة شديدة، ويعرف كيفية استغلال لحظات الفراغ الإستراتيجية ليملأها بمكتسبات يقضمها من هنا وهنا.
ويشبه مصدر مطلع العقوبات الأميركية بالديناصورات التي لا يمكن للحزب مواجهتها والوقوف في وجهها بسبب الاختلال في التوازنات والموارد والإمكانيات، لكنالديناصورات يمكن امتطاء ظهرها وتوجيهها قدر الإمكان والتخفيف من أضرار هيجانها. هكذا يسعى الحزب إلى جعل العقوبات الأميركية عليه فرصة لضرب النظام الاقتصادي اللبناني، والتوجه نحو الشرق بما يعنيه ذلك من استغناء عن الدولار وعن الاستثمارات الغربية بأخرى صينية، وعن الصادرات الغربية بمثيلاتها عربياً.
وفي الأساس وضع «حزب الله» خياراته على الطاولة منذ انطلاق الحراك الشعبي في لبنان، وكان خياره الأول إطالة الوقت القائم لتجنب المعركة والتحايل الشكلي على واقع التبدلات والتوازنات في لبنان، بترك سعد الحريري في السراي الحكومي لتدوير الزوايا مع الغرب، ولكن هذا الخيار سقط منذ البداية، فكان الخيار الثاني حكومة جديدة، حتى إن كانت من لون واحد تفرمل الانهيار أو تحاول تأجيله، وترفع شعار الإصلاح، واسترداد المال المنهوب، ولكن الظروف الذاتية والموضوعية أسقطت هذا الخيار، فباتت الثقة الشعبية في الحكومة تنهار سريعاً. الخيار الثالث الذي واكب الخيارين السابقين، هو الرهان على عدم توجّه الولايات المتحدة الأميركية إلى الخنق الكامل للبنان على قاعدة أن هذه الخطوة ستعطي الحزب مبرراً للسيطرة العملية والعلنية على لبنان، وأنها تسقط الرادع الأساسي الذي يحول دون ذلك، أي الخوف من الحصار، وسقط هذا الخيار مع إقرار قانون قيصر.
وكان لافتاً في المضمون والتوقيت إطلالة رئيس التيار الوطنيّ الحرّ النائب جبران باسيل، بعيد إطلالة نصر الله، ليضعَ فيها مجموعة من النقاط على الحروف، في عملية بيّنت أكثر فأكثر تمايزه عن حلفائه في محور الممانعة.فقد وضع جبران باسيل معادلة واضحة، إمّا صندوق النقد وشروطه أو النموذج الفنزويلي وتبعاته القاسية. حيث كان حازماً بموقفه الجدي من مخاطر الانقلاب في موضوع صندوق النقد ورهان البعض على الوقت لإفشال المفاوضات لأن في ذلك نهاية للبنان.
ووضع باسيل خيار التوجه نحو الشرق من باب توسعة مروحة العلاقات اللبنانية لا من قبيل قطع العلاقات مع الغرب، خاصة واشنطن، تاركاً الباب مشرعاً أمام مفاوضاته معها، وهو ما يزيد الريبة عند «حزب الله» الذي كان أمينه العام «هدّد» جماعة الداخل المنفتحين حديثاً على الأميركيين «الذين نريد أن نحافظ على صداقتهم ولا نريد مواجهتهم».
كما قلب حبران باسيل المقاييس في مسألة الملف السوري على قاعدة «مكره أخاك لا بطل»، فنحن لا نريد لقيصر أن يخنق لبنان، وكذلك لا نريد خنق سورية، ولكنها معادلة القوي القادر على فرض قوانينه، لذلك علينا كلبنانيين «ولمصلحة وطننا، أن نضبط الحدود، نوقف التهريب، نمنع تسرب الأموال إلى سورية»، أي عملياً نلتزم بـ»قيصر»، في موقف مخالف تماماً لما أعلنه الأمين العام لـ»حزب الله».
والأهم، دعوة جبران باسيل إلى عدم الرهان على الخارج وانتظار الانتصارات؛ لأن الجميع في مأزق والجميع سيغرق، مبشراً بسقوط «مقولة» أولوية المقاومة لحماية الدولة، بعدما بات الخطر الوجودي يطال الدولة وبناءها والمقاومة وحماية لبنان، فاتحاً هنا نافذة على المطالبة بتطبيق القرار 1559 وربطه بـ»صفقة القرن» ومخطط التوطين. ولعل في ذلك مؤشراً كبيراً إلى مستقبل «حزب الله» وتاريخ انتهاء صلاحية سلاحه.
قد يهمك أيضا:
عن محسن إبراهيم
عن مأزق الحكومة اللبنانية