بقلم : مهند عبد الحميد
تعاملت منظمة التحرير مع الاتحاد الأوروبي كصديق منذ بدأت مواقفه المؤيدة لحقوق الشعب الفلسطيني تتمايز عن الموقف الأميركي المنحاز لإسرائيل، بل إن حركة فتح العضو المراقب في الاشتراكية الدولية، تعاملت مع الاتحاد الأوروبي كحليف من الدرجة الأولى. الموقف الأوروبي المتغير إيجاباً تكرس في بيان البندقية الشهير عام 1980، الذي اعترف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، ودعا الى تطبيق قراري مجلس الأمن الدولي 242، 338، وجاء في البيان ان المشكلة الفلسطينية ليست قضية لاجئين وحسب، بل هي حق الشعب الفلسطيني في ممارسة تقرير المصير ممارسة كاملة من خلال مشاركة منظمة التحرير في المفاوضات. ورفض بيان البندقية استمرار بناء «المستوطنات» في الأراضي المحتلة.
وخطا الموقف الأوروبي خطوة أخرى في العام 1988 برفع درجة تمثيل منظمة التحرير، كذلك دعم اتفاق أوسلو، فكان الممول الاقتصادي الرئيسي لبنية فلسطينية تؤدي بعد نهاية المرحلة الانتقالية، الى دولة قابلة للحياة مستقلة وذات سيادة وديمقراطية كبديل للاحتلال الإسرائيلي. وربط الاتحاد الأوروبي تطبيق البروتوكول الرابع من اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة وبوضع قرارات مجلس الأمن الدولي موضع التنفيذ، وبوقف الاستيطان.
مناهضة الاتحاد الأوروبي للاستيطان جاءت عبر قرار «وسم» السلع الصادرة في المستعمرات الإسرائيلية المقامة على أراض محتلة واستثنائها من المعاملة التفضيلية الأوروبية كالإعفاء الجمركي. الا ان هذا الإجراء الذي وضع المستهلك الأوروبي أمام خيار شراء السلع الاستيطانية أو مقاطعتها ظل عاثراً وخاضعاً للالتفاف والابتزاز الإسرائيلي مقابل حصول دولة الاحتلال على امتيازات تجارية هائلة. عملياً استأسدت حكومة نتنياهو وبخاصة بعد صعود ترامب الى البيت الأبيض، ودوّخت الأوروبيين عندما وسمت المنتجات بعبارة صنع في إسرئيل، ووصفت الإجراء الأوروبي بأنه يخدم حملات مقاطعة إسرائيل وسياسة العداء للسامية.
ما يمكن قوله ان حكومة نتنياهو بمواقفها الهجومية المتطرفة والابتزازية أربكت الموقف الأوروبي وجعلته في موقع دفاعي سلبي لصالح الاحتكار الأميركي الإسرائيلي للعملية السياسية. وكانت النتيجة إخفاق الاتحاد الأوروبي في إلزام نتنياهو بمعايير حل الصراع كإنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية ووقف الاستيطان واعتماد مرجعيات القانون الدولي، بل وإخفاقه في منع تقويضها وإزاحتها عن طاولة العملية السياسية. وبقيت المواقف الأوروبية – الإسرائيلية المشتركة تكرر عموميات وشعارات خالية من أي مضمون أو عمل ملموس، كدعم عملية السلام واستمرار التفاوض وخطر العنف ووقف التحريض ...إلخ وظلت دولة الاحتلال تنظر للدور الأوروبي كممول يدفع المبالغ والاستحقاقات الكبيرة التي من المفترض ان تدفعها السلطة القائمة بالاحتلال، وضمن هذه المعادلة استمر الاحتلال رابحاً وماضياً في صناعة الوقائع على الأرض.
لماذا لم ينجح الاتحاد الأوروبي في ترك بصماته على العملية السياسية؟ وبصيغة اخرى هل يوجد مصلحة للاتحاد الأوروبي في ترجمة القرارات الدولية الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي التي تدعو الى إنهاء الاحتلال والاستيطان، والى إقامة دولة فلسطينية؟ ان المتتبع لمواقف وسياسات الاتحاد الأوروبي لا يجد غضاضة في الإجابة بنعم، دون ان يعني ذلك تغيير الطبيعة والدور الإسرائيلي في المنطقة كحليف استراتيجي للغرب. ما فعله الغرب من تراجع في دوره الاستعماري التقليدي يرغب في ان تمارسه إسرائيل بتراجعها عن الشكل الاستعماري التقليدي المتوحش. كما ان من مصلحة الاتحاد الأوروبي إيجاد دور مستقل عن أميركا وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تحتكر الهيمنة عليها.
المصالح الخاصة والدور المستقل للاتحاد الأوروبي لا يلغي وجوده في حلف الاطلسي الذي يحمي مصالح الغرب ويعززها، ولا تدعه يتراجع عن التزامه بحق اسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها. فهو اي الاتحاد او دوله الأساسية من صانعي اسرائيل بدءاً من وعد بلفور، مروراً بترجمته على الأرض في مرحلة الانتداب البريطاني، وحرب التطهير العرقي في فلسطين، وحرب السويس عام 56، وبناء المفاعل النووي الإسرائيلي، وإغداق المال الألماني لدولة الاحتلال، وصولاً الى حرب 67. وفي ما بعد 73 بدأ الاتحاد الأوروبي يشق طريقاً لمصالحه في العالم العربي، تتقاطع مع أهداف عربية وفلسطينية عند تراجع او انهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والفلسطينية.
غير ان الانعطاف الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، وانتقال أركان النظام العربي نحو علاقات التبعية، والضعف الذي اعترى منظمة التحرير وهشاشة السلطة، كل ذلك، أتى على التمايز الأوروبي في مواجهة الموقفين الاميركي والاسرائيلي. وفي شروط كهذه من غير المتوقع ان يفتح الاتحاد الأوروبي معركة مع حكومة نتنياهو ومع إدارة ترامب، حول العملية السياسية. لأنه يخسر أمام الطرفين وفي الوقت الذي تغيب فيه سياسة الضغط على المصالح الأوروبية من قبل دول عربية. وعندما حاول ان يفتح معركة جزئية تحت عنوان وسم سلع المستوطنات، لم يصمد طويلاً امام اتهامه بمعاداة السامية، وحاول الدفاع عن نفسه باتخاذ مواقف متشددة من الـ «بي دي اس» كمحاكمة ناشطين وحظر منظمة الـ «بي دي اس» في بعض البلدان.
فشل الاتحاد الأوروبي في تحقيق هدف صغير، وتراجع عن تقديم مبادرات خاصة به تاركاً ساحة الصراع الاسرائيلي الفلسطيني لصفقة القرن التي قرر فريقها الارعن اعدام الحقوق الوطنية الفلسطينية في وضح النهار في صيغة تتحدى فيها الامم المتحدة وميثاقها وقراراتها. فكيف سيكون حال الاتحاد في مواجهة قرار الضم الاسرائيلي لـ 30% من مساحة الضفة الغربية. هل سيتخذ عقوبات ضد دولة الاحتلال التي تنتهك القانون الدولي شر انتهاك. سابقاً عاقب الاتحاد الأوروبي روسيا الاتحادية لأنها ضمت شبه جزيرة القرم اليها في العام 2014 .
وجاء الرد الأوروبي على هيئة عقوبات اقتصادية، كان من نتيجتها انخفاض أسعار النفط الروسي وانخفاض قيمة الروبل وزيادة هروب رؤوس الأموال، وزيادة التضخم ودخول روسيا في مرحلة ركود اقتصادي. السؤال هل سيعاقب الاتحاد الأوروبي إسرائيل بعد ضم 30% من أراضي الضفة الغربية بشكل مخالف للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية التي ساهم الاتحاد الأوروبي في صياغتها بشكل فعال، لا سيما ان قرار الضم الإسرائيلي متناقض مع البند الثاني من اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية. ان اكتفاء الاتحاد الأوروبي ببيان تنديد سيأتي على البقية الباقية من صدقيته وسيتحول الى مؤسسة شبيهة بجامعة الدول العربية. ومن اجل عدم الوصول الى الضم، يحاول الاتحاد الأوروبي تأجيل الضم واستعادة التفاوض وغير ذلك. في كل الأحوال لن تكون صورة النظام الأوروبي قبل الضم كما هي بعد الضم.
قد يهمك أيضا:
نحو بناء رد خلاق ضد الصفقة والضم
الدروس التي لم تقرأ منذ 53 سنة هزيمة