حسومات أخلاقية ومؤامرات

حسومات أخلاقية ومؤامرات..!!

حسومات أخلاقية ومؤامرات..!!

 لبنان اليوم -

حسومات أخلاقية ومؤامرات

حسن خضر
بقلم : حسن خضر

لا يحتاج الأمر إلى سوداوية من نوع خاص، ولا كلبية (cynicism)، للقول إن ما لا يحصى من العرب لا يفهم لماذا يحاكم الإسرائيليون نتنياهو بعد كل ما فعل من أجلهم. والواقع أن هذا ما لا يفهمه أنصار نتنياهو الإسرائيليون، أيضاً. وعلى سبيل الاحتياط، فلنقل إن الإسرائيليين ليسوا هم من يحاكم نتنياهو بل القضاء، والجهات الموكلة بإنفاذ القانون. وما القضاء والجهات الموكلة بإنفاذ القانون سوى تجسيد لفكرة بعينها في الإدارة والحكم. ومشكلة ما لا يحصى من العرب، وأنصار نتنياهو في إسرائيل، ومَنْ يشبهون هؤلاء وأولئك في أربعة أركان الأرض، هي مع الفكرة، نظاماً، وفلسفةً.
الفكرة أن الحاكم موظف يتقاضى راتبه من خزينة الدولة، ويصل إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، ولا يبقى في سدة الحكم فترة تزيد عما نص عليه القانون، وأنه ليس فوق القضاء، ولا القانون (هذا اسمه الفصل بين السلطات) وأن إنجازاته العسكرية والسياسية لا تمنحه حصانة خاصة في نظر القانون.
للفكرة المعنية غواية خاصة في عالم اليوم (أي ما بعد الحرب العالمية الثانية) على الرغم من تعددية أنظمة الحكم في مناطق مختلفة. وما لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن كل ما عدا الديمقراطيات الليبرالية من أنظمة يعاني من حرج بشكل أو آخر، ويُبرر نفسه بخصوصية من نوع ما، وأن ثمة أنظمة تتعامل مع الديمقراطية بطريقة انتقائية، وكنوع من الديكور، لتفادي الحرج، والسمعة السيئة. والأخطر بين أصحاب الخصوصيات الدينية والقبلية والقومية مَنْ يسعى لتعميم خصوصيته بوصفها النموذج البديل.
وإذا استمر صعود اليمين الديني والقومي، كما نرى ونسمع، سيصبح استثناء الخصوصيات قاعدة، وما عداها استثناء. فمَنْ قال إن «الإسلام» أو «اليهودية» أو «المسيحية» أو «الهندوسية» أو «البوذية» لا تنطوي على مفاهيم وقيم وتجارب تاريخية، ومرافعات فقهية ولاهوتية، ونظريات سياسية، تعيد العالم إلى ما قبل «كارثة» نزع السحر عنه (نزع السحر بلغة ماكس فيبر، إذا شئت)، وتنجح في تحريره من الرأسمالية، والانهيار الأخلاقي، والتحلل الجنسي، وتعيد للإنسان اعتباره، وللطبيعة احترامها!!
ستتضح، بعد قليل، ضرورة التذكير بما تقدّم. المهم أن العاجزين عن فهم لماذا يحاكم الإسرائيليون (أو القضاء) نتنياهو بعد كل ما فعل من أجلهم، أو كيف تجرؤ الشرطة على التحقيق مع حاكم، ويجرؤ القضاء على وضعه في قفص الاتهام، يصدرون في أمر كهذا عن فكرة مضادة، فالحاكم يستحق قدراً من الحسومات الأخلاقية، خاصة إذا كانت إنجازاته كبيرة.
وهذه، على الأرجح، معضلة وجودية بالنسبة للعربي، الذي يعيش على وجه خاص في بلدان يُعامل الحاكم فيها كولي للأمر، ويتجلى منحه حسومات أخلاقية كاستراتيجية للبقاء على قيد الحياة.
وهناك فئة ثانية، وأغلب هؤلاء من أنصار نتنياهو في إسرائيل، تعتقد أن المحاكمة جزء من مؤامرة حاكها الخصوم السياسيون في المعارضة، وأن هؤلاء ليسوا أعداء للحاكم وحسب، بل وللشعب والوطن والدولة، أيضاً. القاسم المشترك بين مختلف الفئات: زعزعة فكرة الحاكم كموظف، وزعزعة قابليته للفساد، وإمكانية محاكمته والحكم عليه.
وعلى الرغم من الاختلاف البيّن بين الديمقراطية الليبرالية في الولايات المتحدة، والديمقراطية الإثنية في إسرائيل، كلتاهما في أزمة: ترامب الأميركي يتهم الصحافة، و»الدولة العميقة» بالتآمر عليه، ونتنياهو الإسرائيلي يتهم الشرطة، والقضاء، وخصومه السياسيين بالتآمر عليه. وكلاهما يحاول التدليل على صدقيته، ويتصدى لمعارضيه، بحيل وألاعيب تقوّض ما استقرت عليه قواعد اللعبة الديمقراطية. ويؤمن أنصار هذا وذاك بأهمية وضرورة الحسومات الأخلاقية، وهم من مستهلكي نظرية المؤامرة، أيضاً.
وثمة ما يبرر التذكير، هنا، أن دافع الإيمان بأهمية وضرورة الحسومات الأخلاقية، التي يستحقها الحاكم، يصدر عن فلسفة مضادة في الحكم، ودفاعاً عمّا يتجلى كمصلحة أعلى قيمة من النزاهة الأخلاقية، والضوابط القانونية والدستورية، فأنصار ترامب من المسيحيين الإنجيليين، مثلاً، لا يخفى عليهم تعارض سيرة ومسيرة المذكور مع القيم الدينية والأخلاقية المحافظة، ولكن هذه أشياء قليلة الأهمية إذا ما قورنت باحتمال أن يكون الله قد اختاره لإعادة أميركا إلى الطريق القويم، وتقريب يوم الخلاص.
وبالقدر نفسه قد يتساءل أنصار نتنياهو: ما قيمة بضعة ملايين أنفقتها الدولة، دون وجه حق، عليه وعلى عائلته، أو بضعة ملايين حصل عليها بطريقة غير مشروعة كهدايا مقابل خدمات، إذا ما قورنت بالرخاء الاقتصادي، والصعود المدهش لمكانة إسرائيل في العالم، واستكمال مشروع «أرض إسرائيل»، وتطبيع العلاقة مع العرب، وتصفية المسألة الفلسطينية؟ ولماذا لا يكون في التحقيق معه، واتهامه ما ينم عن عداء دفين لمشروع الدولة الإسرائيلية نفسها، وللصهيونية كبوصلة للمشروع.
على أي حال، في الحسومات الأخلاقية، أو نظريات المؤامرة، وغالبا ما يتضافر الأمران، ما يكفي لإضفاء نوستالجيا موجعة على محاولات (شعبوية بلغة هذه الأيام) للعودة إلى، واستعادة، عالم لم ينزع عنه السحر، وفي كليهما، أيضاً، من المواد القابلة للاشتعال ما يكفي لإضعاف جهاز المناعة الذاتية، وتصفية النظام الديمقراطي، وتقويض بنية الدولة. وبقدر ما أرى: ترامب يسحب أميركا إلى القاع. ونتنياهو، الذي يلعب بالبيضة والحجر، ويعد الإسرائيليين بالكل، قد يكون المُخلّص الذي يضعهم على طريق ضياع الكل.

lebanontoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حسومات أخلاقية ومؤامرات حسومات أخلاقية ومؤامرات



GMT 00:53 2021 الأربعاء ,13 كانون الثاني / يناير

فخامة الرئيس يكذّب فخامة الرئيس

GMT 21:01 2020 الأربعاء ,23 كانون الأول / ديسمبر

بايدن والسياسة الخارجية

GMT 17:00 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

أخبار عن الكويت ولبنان وسورية وفلسطين

GMT 22:48 2020 الثلاثاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

عن أي استقلال وجّه رئيس الجمهورية رسالته؟!!

GMT 18:47 2020 الأربعاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب عدو نفسه

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة - لبنان اليوم

GMT 11:49 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
 لبنان اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 17:54 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
 لبنان اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 12:03 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

تعرف على تقنية "BMW" الجديدة لمالكي هواتف "آيفون"

GMT 19:06 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 07:21 2021 الثلاثاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات ساعات متنوعة لإطلالة راقية

GMT 09:17 2022 الإثنين ,11 تموز / يوليو

6 نصائح ذهبية لتكوني صديقة زوجك المُقربة

GMT 12:59 2021 الثلاثاء ,02 شباط / فبراير

مصر تعلن إنتاج أول أتوبيس محلي من نوعه في البلاد

GMT 06:22 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

استغلال وتزيين مساحة الشرفة المنزلية الصغيرة لجعلها مميزة

GMT 21:49 2022 الأربعاء ,11 أيار / مايو

عراقيات يكافحن العنف الأسري لمساعدة أخريات

GMT 12:22 2022 الأربعاء ,06 تموز / يوليو

أفضل العطور النسائية لصيف 2022

GMT 21:09 2023 الأربعاء ,03 أيار / مايو

القماش الجينز يهيمن على الموضة لصيف 2023

GMT 17:08 2022 الأحد ,06 آذار/ مارس

اتيكيت سهرات رأس السنة والأعياد

GMT 21:25 2021 الأحد ,10 كانون الثاني / يناير

لا تتردّد في التعبير عن رأيك الصريح مهما يكن الثمن

GMT 06:17 2014 الثلاثاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

السيسي يجدد دماء المبادرة العربية

GMT 09:55 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

المغربي سعد لمجرد يُروج لأغنيته الجديدة "صفقة"

GMT 08:41 2023 الأربعاء ,22 آذار/ مارس

مكياج مناسب ليوم عيد الأم
 
lebanontoday
<

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

lebanontoday lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday lebanontoday lebanontoday
lebanontoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
lebanon, lebanon, lebanon