بقلم : خيرالله خيرالله
مضت أيام على كلام العميد مرتضى قرباني مستشار قائد "الحرس الثوري" الايراني الذي قال: "في حال ارتكبت إسرائيل اصغر خطأ تجاه ايران، سنسوي تل ابيب بالتراب انطلاقا من لبنان". الملفت في الكلام وضوحه، خصوصا عبارة "انطلاقا من لبنان". ما هو ملفت اكثر صدور توضيح من "الحرس الثوري" لا يوضّح شيئا. معنى ذلك انّ كلام قرباني يمثل بطريقة او بأخرى وجهة النظر الرسمية لـ"الجمهورية الإسلامية" التي ترى في لبنان مجرّد ورقة. تُستخدم الورقة اللبنانية في خدمة مشروع توسّع إيراني. يختزل هذا المشروع الشعور بالفخر الذي راح يظهره مسؤولون إيرانيون بعد وضع الحوثيين "انصار الله" يدهم على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. وقتذاك، تبجّح غير مسؤول في طهران بان "الجمهورية الإسلامية" صارت تتحكّم بأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
في 2019، على الرغم من مرور ستة عشر عاما على تسليم اميركا العراق على صحن من فضّة الى ايران، أظهرت بغداد انّها عصيّة على طهران. يظهر العراقيون بكلّ انتماءاتهم الطائفية والمذهبية يوميا انّهم يرفضون الرضوخ للاستعمار الايراني. يتحدّون آلة القمع الايرانية المتمثّلة في ميليشيات مذهبية دخلت بغداد في نيسان – ابريل من العام 2003 على ظهر دبابة أميركية!
بالنسبة الى دمشق، سيتبيّن يوما ان الثورة التي اندلعت في آذار – مارس 2011 مستمرّة وانّ ليس طبيعيا ان تتحوّل عاصمة الامويين الى مدينة تحكمها ايران، مهما ذهبت بعيدا في الاستثمار في عملية تغيير التركيبة السكانية للمدينة والمناطق المحيطة بها.
بالنسبة الى صنعاء، لا يمكن للمدينة العريقة الّا ان تستفيق يوما. هناك ظلم تاريخي لحق بالعاصمة اليمنية، خصوصا بعد إصرار الحوثيين في مثل هذه الايّام من العام 2017 على اغتيال علي عبدالله صالح بدم بارد وذلك كي لا يكون لديهم شريك في حكم العاصمة والمناطق الواقعة تحت سيطرتهم والتحكّم بها على نحو مطلق. ليس منطقيا بقاء صنعاء في اسر التخلّف والبؤس وشعار "الموت لاميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود" وذلك من اجل تنفيذ سياسة إيرانية تستهدف، انطلاقا من اليمن، كلّ دولة من دول الخليج العربي، في مقدّمها المملكة العربيّة السعودية.
تبقى بيروت التي ترفض ان تكون مدينة بلا حياة وتحت سيطرة ثقافة الموت التي يسعى "حزب الله" الى فرضها عليها. بيروت ما زالت تقاوم. كان آخر تأكيد على ذلك عظة للمطران الياس عودة، مطران بيروت للروم الأرثوذكس. كانت العظة في ذكرى استشهاد الأخ والزميل والحبيب جبران تويني قبل أربعة عشر عاما. كان المطران عودة شديد الوضوح في وصف ما يعاني منه لبنان، خصوصا ان الجميع يعرف من وراء اغتيال جبران تويني ولماذا اغتيل رجل آمن بلبنان وبثقافة الحياة فيه، رجل استطاع تحويل جريدة "النهار" العريقة الى أداة مقاومة من اجل استعادة لبنان حريته وسيادته واستقلاله. قال المطران عودة بالحرف الواحد "هل نعيش في جمهورية اصنام او جمهورية دمى؟ هذا البلد يُحكم اليوم من شخص تعرفونه جميعكم ولا احد يتكلّم. ويحكم من جماعة بقوة السلاح. المسؤلون خائفون من صوت الحق والحقيقة، خافوا من هذا الصوت ولم يحترمونه".
هناك بكل بساطة وضوح إيراني ليس بعده وضوح. هناك في المقابل وضوح لبناني ليس بعده وضوح أيضا. عبّر عن ذلك المطران عودة رجل الدين الاستثنائي الذي يعرف تماما طبيعة التحديات التي تواجه لبنان وتلك التي تواجه الكنيسة الارثوذكسية بالذات أيضا. يوجد من يريد جرّ الكنيسة الى ان تنضم الى المدافعين عن "حلف الاقلّيات" الذي تقف ايران خلفه. لا حاجة بالطبع الى الدخول في تفاصيل متعلّقة بـ"حلف الاقلّيات"، الذي يخدم في المدى الطويل دولة عنصرية هي إسرائيل. ولا حاجة الى توصيف الجهود التي يبذلها النظام السوري، وهو نظام اقلّوي، من اجل تحويل هذا الحلف الى حقيقة بمشاركة ايران ورعايتها. لكنّ الأكيد ان "حلف الاقلّيات" هو مقبرة للمسيحيين المشرقيين، بما في ذلك الموارنة. وهذا ما يدركه رجل انفتاح مثل المطران عودة الذي اضطر أخيرا الى تسمية الأشياء بأسمائها متفاديا ذكر أسماء العلم التي لا تبدو في حاجة الى من يذكرها لشدّة ما هي معروفة.
مثل هذا الوضوح اللبناني في مقابل الوضوح الايراني يعوّض الى حدّ كبير عن تقصير الدولة التي تمرّ في ازمة عميقة على كلّ المستويات، ازمة من نوع لا سابق له منذ قيام لبنان الكبير قبل نحو قرن. صحيح ان ما يجري في لبنان يبقى تفصيلا مقارنة مع ما يجري في العراق حيث سيتحدد مستقبل النظام الايراني والمعالم المقبلة للمنطقة، لكنّ الصحيح أيضا ان لبنان مصرّ على المقاومة من جهة وعلى ان يبقى فيه من هو قادر على قول الحقيقة في احلك الظروف واقساها من جهة أخرى.
هناك في لبنان من يعرف تماما انّه لو كانت ايران قويّة بالفعل ومرتاحة الى وضعها، لما وجدت نفسها مضطرة لقول كلام من النوع الذي صدر عن مستشار قائد "الحرس الثوري". مثل هذا الكلام عن "تسوية تل ابيب بالأرض انطلاقا من لبنان" يؤكد الضعف الايراني. انّه ضعف في القدرة على مواجهة الحقيقة بدل الهرب منها. تقول الحقيقة بكل بساطة ان ايران عانت وتعاني من العقوبات الاميركية وان لبنان يعاني أيضا من هذه العقوبات التي جلبها على مصارفه إصرار واشنطن على ملاحقة الاذرع الايرانية في المنطقة، من بينها "حزب الله". لقد آن أوان الافراج عن لبنان الأسير الذي تعتبره ايران مجرّد "ساحة". آن أوان ان تظهر ايران انّها لا تسعى سوى الى نشر البؤس في المنطقة. لديها مخرج كي تؤكّد انّها تغيّرت فعلا وانّها تعلّمت من تجربة العقوبات الاميركية. يظلّ لبنان نقطة البداية التي تستطيع الانطلاق منها في حال كانت لديها رغبة في استيعاب ان مشروعها التوسّعي الى تراجع وان لا مستقبل لها لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا حتّى في اليمن حيث لا افق سياسيا او اقتصاديا للمشروع الحوثي.
من هذا المنطلق، من الأفضل لإيران تقبّل وضوح المطران الياس عودة وان تفرج عن الحكومة اللبنانية الجديدة عن طريق ضبط ادواتها وأدوات ادواتها من المسيحيين. فحكومة لبنانية معقولة ومقبولة من المجتمع الدولي ومن العرب تبقى الطريق الأقصر لمنع انهيار البلد. هل تؤدي "الجمهورية الإسلامية" هذه الخدمة للبنان ام تبقى أسيرة أوهام من نوع كلام مستشار قائد "الحرس الثوري" الايراني الذي حاولت توضيحه من دون ان تنجح في ذلك؟