بيروت - لبنان اليوم
أظهر الفاتيكان دعمه للبنان من خلال العمل مع العواصم المعنية وأهمها واشنطن وباريس. وتَزامَنَ هذا التحرك، مع متغيرات في واشنطن تجلّت في انتخاب جو بايدن، الرئيس الكاثوليكي الثاني بعد الرئيس جون كنيدي رئيساً للولايات المتحدة. في موازاة الدور الفرنسي المتوالي فصولاً تجاه لبنان لإنهاء المأزق الحكومي المتمادي، تتجه الأنظار إلى الفاتيكان لتَلَمُّس ما يمكن أن يقدّمه من مساعدة لإنقاذ «بلاد الأرز» ودعم الجهود لإخراجها من أسوأ أزمة شاملة تواجهها.
إلا ان مقاربة الموقف الفاتيكاني، تختلف تماماً عن مقاربات عواصم القرار التي تعنى عادةً بالشأن اللبناني. فالفاتيكان لا يتدخّل في مسائل عملانية، كمثل انتخابات رئاسة الجمهورية أو تشكيل الحكومة، ولا يتعاطى الشأن السياسي المباشر، وعَمَلُهُ تجاه لبنان ينطلق من مسلَّمات أساسية يتعاطى بها عادةً، في سعيه مع الدول المؤثّرة لإنتاج أي حل.
الفاتيكان الذي وقف دائماً إلى جانب لبنان، منذ بداية الحرب الأهلية في العام 1975، عمل حينها على حشْد كل الطاقات الدولية والعواصم الأساسية من أجل وضْع حد لتلك الحرب، إضافة إلى سعيه لإيجاد مخارج وتسويات تتعلّق بقضايا إنسانية كالمهجرين في أرضهم، ومن ثم عقد مؤتمر خاص حول لبنان دمج فيه الهمّ الكنسي باللبناني الوطني، تحت عنوان «الإرشاد الرسولي»، وفيه مزج المبادئ الكنسية العامة مع الوطنية الخاصة بلبنان، فأوصى تحديداً بعنوان العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين الذي خصّه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بعناية فائقة، إضافة إلى ضرورة تمسك المسيحيين بأرضهم ودورهم في لبنان والمنطقة.
تميّزت ولاية البابا الحالي فرنسيس بتعاطٍ «مدروس» مع «بلاد الأرز» ومع الكنائس التي تتبع التقويم الغربي التابعة للفاتيكان والحاضرة في لبنان. ورغم أن الكنيسة المارونية هي الأكثر تأثيراً كونها تمثّل الفئة الأكثر عدداً من مسيحيي لبنان، إلا أن البابا أوْلى اهتماماً بالكنائس المحلية الأخرى. ومن هنا يَبْرز عدم فصْل تعاطيه مع لبنان عن اهتمامه بمسيحيي الشرق وهو العنوان الذي خصّه منذ تسلُّمه حبريته، باهتمامٍ واضح، وحرص على صوغ علاقة واضحة مع الكنائس الشرقية ومع الطوائف الإسلامية، فزار القدس، ومصر والإمارات وأخيراً العراق، فيما كان سلفاه البابا يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر يوليان اهتماماً أكثر بلبنان نتيجة الحرب وتداعياتها والتدخل السوري فيه، ونتيجة فاعلية «الجالية» المارونية، أي الإكليروس اللبناني العامل في الفاتيكان، والعلاقات القديمة بين بكركي (البطريركية المارونية) ورهبانيات مارونية والكرسي الرسولي.
حتى الآن، لم يَزُر البابا فرنسيس لبنان، رغم الدعوات التي وُجهت إليه رسمياً وكنسياً. لكنه يبدي حرصه على لبنان، وعلى الحفاظ عليه وعلى الوجود المسيحي فيه. وقد يكون من أكثر المناسبات التي أظهر فيها مشاعره تجاهه هو إنفجار الرابع من أغسطس عام 2020 في مرفأ بيروت والتظاهرات الشعبية التي اندلعت في 17 أكتوبر 2019. وفي الحدَثيْن أعلن الفاتيكان تَضامُنَه مع اللبنانيين، وأوفد البابا وزير خارجيته بيترو بارولين إلى بيروت للتعبير عن وقوفه إلى جانب لبنان وضحايا الإنفجار، وقال آنذاك «ان لبنان يواجه خطراً كبيراً» داعياً إلى الصلاة من أجله وعدم التخلي عنه، مُطْلِقاً مبادرة لدعمه.
نُظر إلى كاثوليكية بايدن المُمارِس لطقوس طائفته والذي تربطه علاقات وثيقة مع قادتها، على أنه الباب الرئيسي الذي يمكن للفاتيكان عبره التواصل مع الرئيس الجديد من أجل ترجمةٍ عمليةٍ لمبادرته لإنقاذ لبنان. لكن المبادرةَ في ذاتها لا عناوين تفصيليةً لها، بمعنى جدول أعمال وبنود محدَّدة، كما هي حال المبادرة الفرنسية مثلاً. فما يعني الفاتيكان تحديداً هو الحفاظ على لبنان بإستقلاله وسيادته وبتنوُّعه الطائفي والثقافي والاجتماعي ولا سيما عيْش أبنائه بكرامة. ومن هنا اهتمامه بالوضع الاقتصادي وبمواكبة كل ما يُعَدّ من خططٍ لإنقاذ لبنان من أزمته المالية والاقتصادية وتأمين المساعدات للبنانيين ولا سيما عبر مؤسسات الإغاثة الكنسية والدولية. إضافة إلى أن وجود أساقفة تابعين للكنيسة المارونية في الولايات المتحدة (وهم يتبعون الفاتيكان مباشرة كونهم يقيمون في بلاد الانتشار وتحت سلطة الكنيسة اللاتينية وينسّقون مع دوائرها مباشرة) يلعب دوراً مؤثّراً أيضاً في حشد اهتمام الإدارات الأميركية المتعاقبة للوقوف إلى جانب لبنان. لكن التنسيق على مستوى دولتيْ الفاتيكان وأميركا لم يتبلْور حالياً بعد ليصل إلى المستوى السياسي الأعلى درجة في إيجاد حل للأزمة اللبنانية ولا سيما أن تَشَعُّب هذه الأزمة بين الحوار الأميركي - الإيراني والعوامل الإقليمية ما زال يطغى على أي خريطة طريق، تتريث واشنطن في رسْمها للبنان.
في الشق السياسي أيضاً، يتواصل الكرسي الرسولي دورياً مع فرنسا، وهي الأقرب إليه أوروبياً في تَعامُلها مع لبنان وخصوصاً أن باريس تلعب دوراً في طرْح مبادراتٍ كما فعل الرئيس ايمانويل ماكرون منذ انفجار المرفأ، إضافة إلى وجود أيضاً زائر بطريركي على أوروبا مقيم في باريس وعلى اتصال بأساقفتها في إطار حضِّهم على العمل من أجل لبنان. لكن رغم هذا التواصل وفاعليته، إلا أنه لم يُترجم بخطوة متقدمة، وخصوصاً أن المبادرة الفرنسية اصطدمت بتعثُّر مستمر منذ أشهر عدة، ولم يسفر عن مخرج لتشكيل حكومة لا بد منها لإطلاق عملية الإنقاذ، وذلك بفعل تداخل العوامل المعرقلة للتشكيل وتنوُّعها، ومن بينها الضغوط المتبادَلة التي تُمارَس بين الأطراف المعنيين في عملية التأليف. فثمة سقف محدّد تتعاطي به دوائر الفاتيكان الديبلوماسية لا يتعلق بالتقنيات التي تهمّ اللبنانيين عادة. أي انه يهتمّ بمسائل مبدئية من دون النظر إلى الحصص والتركيبات اللبنانية اليومية، وهو الأمر الذي دخلتْ به باريس في مبادرتها وأدى تشعُّبها إلى إصطدامها بحائط من تعنُّت القوى السياسية.
يبقى موقف الفاتيكان من الطروحات التي تَقَدَّم بها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بدءاً من الدعوة إلى «الحياد» وطرح فكرة المؤتمر الدولي حول لبنان، وصولاً إلى المبادرات التي قام بها لتسريع عملية تشكيل الحكومة. وحتى الآن لم يتخذ الفاتيكان موقفاً من طروحات الراعي وخصوصاً لجهة التبني الرسمي لفكرتيْ الحياد والمؤتمر الدولي، علماً ان موضوع تشكيل الحكومة، لا يتدخل به الفاتيكان الذي استقبل أخيراً الرئيس المكلف سعد الحريري بناءً على طلب موعد تقدم به الحريري عبر سفارة الفاتيكان في بيروت، سوى من باب الفكرة المبدئية بضرورة تأليف حكومة في أسرع وقت من أجل العمل على خطة إنقاذية للوضع الإقتصادي والسياسي العام.
يظهر جلياً أن الفاتيكان الذي أصبحت له علاقات جيدة مع دول المنطقة، لا يقف علناً خلف مبادرات بكركي، وإن كان لم يتّخذ موقفاً سلبياً منها. وفيما يحاول البعض الإضاءة في هذا السياق على شق يتعلّق بالعلاقة بين الفاتيكان وبكركي في هذه المرحلة في ضوء ملاحظات لدى الفاتكيان على أداء أساقفة وبعض الأوضاع الداخلية في الكنيسة المارونية، فإن آخَرين يرون أن الفاتيكان ينظر إلى المبادرات من باب إمكان ترجمتها عملياً. وهو يدرك أن الفكرتين المطروحتين غير قابلتين للتنفيذ وسط الخريطة الدولية الحالية وإنشغال الإدارة الأميركية بمجموعة ملفات من أفغانستان إلى إيران والسعودية وإسرائيل، ومن الصعب حالياً إيجاد ثغرة لفتح الملف اللبناني بمعزل عن كل الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. لكن تَيَقُّن الفاتيكان من عدم وصول المبادرات المطروحة حالياً الى مخرج للأزمة، لم يحل دون إيلائه الشأن الوطني العام والإجتماعي إهتماماً واضحاً من خلال تمسكه بـ«فكرة» لبنان القائمة على العيش المشترك والوجود المسيحي فيه، إضافة إلى الحضّ على تقديم الدول المانحة مساعدات للبنان لوقف مسلسل التدهور الاجتماعي.
وقد يهمك أيضًا:
"تمايز" بين "أمل" و"حزب الله" حول مواصفات الحكومة وسط دعم بري لموقف الحريري