بيروت - لبنان اليوم
يحكي لنا أهلنا كيف تربوا في بيوت متواضعة، وكيف كان نظامهم الغذائي يقوم أساسًا على البقوليات والألبان. يتذكرون تلك الأيام، ويفصحون بأن اللحوم، الحمراء خاصة، كانت تزور بيوتهم في الأعياد.يتندر أهلنا حاليًا على ذلك الماضي، لكنهم في الوقت عينه لا يشعرون بأي أسف على الحاضر. فهم معتادون على أن تكون اللحوم مجرّد زائر سنوي، ولا يوحون لنا بأنهم كانوا محرومين. على العكس، فهم يقاربون هذا الأمر من منطق صحي. لكنهم يضحكون في سرّهم من جيلنا نحن، إذ يبدو لهم أننا سنكرّر تجربتهم مع تحوّل اللحوم إلى وجبة أشبه بـــ "عيدية"، بعدما كانت حاضرة في نظامنا الغذائي اليومي.
كما جميع المواد الإستهلاكية، باتت اللحوم أشبه بوجبات فاخرة، لا يحصل عليها إلا ميسوري الحال. فقد بلغ سعر كيلو اللحم الأحمر ضعف ما كان عليه قبل شهرين. وهو مبلغ كبير جدًا في ظل البطالة وتآكل القدرة الشرائية لليرة وضآلة الرواتب.هذا حال الكثير من العائلات، وتحديدًا ربات المنازل، اللواتي استطلع "لبنان 24" تعليقاتهن على ارتفاع الأسعار، حيث خلصن إلى إجابات شبه موحدة لعل أكثرها تعبيرًا هي تلك التي قالتها( ...) : "الحالة تعتير، بدن العالم تجوع؟ كيلو اللحم صار بأربعين ألف، واذا بدي إحرم عيلتي من اللحمة وطعميهن بس عدس، بحب قول أنه صار كيلو العدس بستة آلاف!".
وأضافت في حديثها : "مش كل شي الو علاقة بالدولار، في ناس صارت بلا رحمة، وبنتطر فرصة لتستغلنا وتعمل مصاري على حسابنا".هل هو الجشع الذي جعل أسعار المواد الغذائية بشكلها المجنون اليوم ومنها اللحوم؟في بلد لا تتدخّل فيه الدولة بشكل حاسم للحفاظ على الأمن الغذائي لمواطنيها، ومجتمع تقوم التجارة فيه على المضاربة، فإن ما يحصل غير مستهجن. لكن ثمة ضحايا صغار يتقاسمون معنا الخسارة. ففي حين أن زيادة أسعار اللحوم غير مبررة أن تصل الى هذا الحد، الا أن بائعي اللحوم يعانون من خسائر يومية نتيجة السعر غير المستقر لليرة أمام الدولار. فضلًا عن خسائر مضاعفة على السوق برمته نتيجة اعتكاف اللبنانيين عن شراء اللحوم، أو إقتصادهم في استهلاكها الى الحد الأدنى.
علمًا أن مجمل اللحوم الموجودة في السوق اللبنانية مستوردة، في حين أن إنتاج لبنان من المواشي ومشتقاتها لا تغطي حاجاتنا الغذائية.هي حلقة مفرغة ندور فيها جميعنا. ففي الوقت الذي نقتصد فيه في استهلاك اللحوم، تترتب خسائر مضاعفة على كل العاملين في هذا السوق، وما يعنيه ذلك من احتمال فقدانهم لأشغالهم.وإذا كانت العائلات مجبرة على حذف اللحوم من قاموسها الغذائي، فإنها بأمسّ الحاجة الى مراقبة أسعار البدائل الغذائية الأقل تكلفة. إذ من غير المعقول أن تتحول البقوليات (العدس والحمص غيرهما) الى وجبة صعبة المنال.
وهذا ما تؤكده ريتا مرة أخرى وهي ربة منزل لأسرة يعمل فيها الوالد حارسًا ليليًا في إحدى شركات الأمن، براتب مليون ليرة شهريًا. حيث لا يكفي الراتب لإطعام عائلة مكونة من خمسة أشخاص، فضلًا عن المصاريف الأساسية الأخرى.وعليه، فإنها تطالب بتدخل سريع لوضع حد للأسعار على المواد الغذائية الرئيسية، إذا كان من المفروض عليها هي والعائلات الفقيرة، الإستغناء عن كل أنواع اللحوم.إضافة الى كل ما سبق، لعل هذه الأزمة تكون مدخلًا للتفكير في بدائل منطقية مستقبلية. ومنها الا نبقى بلدًا مستوردًا. فإن كنا غير قادرين على الوصول الى صناعات تكنولوجية، لا يبدو أنه من الصعب علينا أن نؤمن حاجة سوقنا الداخلي من المواشي والدواجن، بمزارع ندشنها نحن!