بيروت - لبنان اليوم
الآن إلى أين؟ ربما كثافة الغبار تمنع كثيرين من رؤية التفاصيل بوضوح. لكن المؤكد أن الطريق الذي اختاره البعض للبلد، قصدًا أو بغير قصد، سيضعه في نقطة حسّاسة بين الموت والحياة، فعندما أعلن رئيس الحكومة حسّان دياب "تعليق" لبنان دفع مستحقاته من سندات "اليوروبوند"، علّق أحد "الحكماء": ما يجري على صعيد المال والاقتصاد هو ترجمةٌ لتحوِّل أكثر عمقًا. فمنذ الاستقلال، لم يتخلَّف لبنان عن سداد ديونه. إذًا، اليوم، وفيما هو يعلن التخلَّف، يدخل مرحلة جديدة لها رمزيتها بالنسبة إلى استقلال البلد وسيادته.
ويضيف: علينا أن ننحني أمام "أُمِّنا الحنون" فرنسا، ونستغفرها. فهي أظهرت أنها أكثر حرصًا علينا من أنفسنا. وفيما كانت تغضّ النظر عن وعودنا الكاذبة بالإصلاح منذ باريس 1 و2 و3، جهدت كثيرًا منذ مؤتمر "سيدر" 2018 لإقناعنا بأن أمورنا لم تعُد قابلة للتسويف والمماطلة. ولكن، عبثًا. والأفضل لو قطعت لنا الحبل منذ 10 سنوات أو 20، لما كنا تمادينا حتى بات سقوطنا عظيمًا...
والأرجح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان سيمضي في تقديم مزيد من الدعم لتركيبة فسادنا السياسي- المالي- الإداري- القضائي، لو لم يصفعه الرئيس الاميركي دونالد ترامب على يده، ولولا أن بريطانيا في اللجنة الثلاثية المؤلفة بعد 17 تشرين الأول 2019 اصطفَّت مع الأميركيين لا مع الفرنسيين، ولولا أن مجموعة الخليج العربي أيضًا تخلَّت عن التساهل تجاه لبنان.
معروفة قصة الطاقم السلطوي في التهرُّب من الإصلاح، منذ سنوات عديدة وحتى "فرار" هذا الطاقم من المسؤولية المباشرة بإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري واستبدالها بـ"حكومة المحرقة" أو "إدارة التفليسة".
قبل إعلان لبنان "تعليق" الدفع، سمع من الفرنسيين دعوات ملحّة للتعاون مع صندوق النقد الدولي. فهو الدواء الأخير. وعلى الأقل، إذا جرى التفاوض مع الصندوق تأتي النتيجة أكثر ملاءمة لما يريده لبنان بدلًا من أن تأتي الوصفة جاهزة وتحت حُكم الطوارئ. لكن لبنان رفض ذلك.
في تقدير العارفين، المشكلة الحقيقية لا تتعلق بالصندوق حصرًا، بل بمبدأ الإصلاح أساسًا. فقد كان من الممكن أن تبادر السلطة إلى خطواتٍ إصلاحية بأدوات محض لبنانية، ووفقًا للقوانين اللبنانية.
وهذه الخطوات تكون مثمرة جدًا إذا شملت مثلًا الأموال المنهوبة والمهرَّبة وقطاعات الكهرباء والاتصالات والجمارك والتهرّب الضريبي والجباية وسوى ذلك من خطوات يمكن تنفيذها وتحصيل نتائجها خلال أسابيع أو أشهر لا سنوات. فلو طُبِّقت قبل سنوات أو أشهر لفرملت انهيار البلد. واليوم، ما زال تطبيقها، ولو متأخّرًا، يقدّم علاجًا مساعدًا يقلِّص من حجم الدعم الخارجي المطلوب، وتاليًا من حجم الارتهان لوصاية القوى الخارجية.
ولكن تم ركوب المغامرة، إذ لا قدرة على ضبط ردِّ فعل الجهات الدولية الدائنة. والكلام الذي يتردَّد عن احتمال قيام تنسيق بين هذه الجهات لرفع دعاوى على الحكومة اللبنانية وحجز ممتلكاتها في العالم لا يجوز إهماله.
بعض المعنيين يسأل: كيف للقوى اللبنانية التي رفضت دعم الصندوق النقد الدولي، بذريعة أنه "أداة في يد الإمبريالية الأميركية"، أن تترك الباب مفتوحًا لخيار ربما يتيح تدخلًا خارجيًا أوسع بكثير من الصندوق؟
وهل يدرك الذين يتحكّمون اليوم بالسلطة - من وراء الستارة - والذين تنكّروا دائمًا للخيارات الإصلاحية الحقيقية، أنهم سيندمون على رفض الخيارات الأكثر استقلالية التي طرحها وفد الصندوق في زيارته الأخيرة؟
أكثر من ذلك، كان وفد الصندوق مستمعًا أكثر الأوقات، ولم يطلب من لبنان إلاّ إطلاعه على الوقائع والأرقام الحقيقية واقتراح خطة المعالجة، لكي يعرف الصندوق كيف يمكنه تقديم المساعدة. ولكنه قوبل بجدار سميك من الغموض والرفض والمماطلة. وفي عبارة أخرى، عاد إلى واشنطن بانطباع أن لبنان تحكمه "الرعونة" إلى حدود لا يمكن وصفها.
في الأسبوعين المقبلين، سينطلق لبنان في مفاوضاته مع الدائنين. ولا أحد يعرف ماذا يخبئ هؤلاء. وهل تدخل الاعتبارات السياسية على الخطّ، في موازاة الاعتبارات المالية، فتتحكم بطريقة تعاطيهم مع الأزمة؟
من قواعد التعاطي بين الدول القوية والدول الضعيفة أن يبحث كل طرفٍ عن أوراق صالحة للاستخدام لتدعيم موقعه. فهل تصبح الجهات الدائنة وديونُها أوراقًا ضد لبنان في أيدي القوى الخارجية، في لحظة صراعية ساخنة بين الولايات المتحدة وإيران، ووسط تجاذبات الشرق الأوسط التي تنخرط فيها أيضًا إسرائيل وتركيا وروسيا والأوروبيون؟
إذا رفع الدائنون دعاوى ضد الحكومة اللبنانية في المحاكم الأميركية، فإن موجودات لبنان هناك ستكون في خطر، ولاسيما احتياط الذهب الذي يستودع لبنان جزءًا وافرًا منه في نيويورك (يقدِّره بعض الخبراء بأكثر من 10 مليارات دولار) إضافة إلى احتياطات العملات الأجنبية التي يملكها مصرف لبنان هناك وفي دول أخرى في العالم.
طبعًا، سيتم ذلك فيما مؤسسات التصنيف الدولية ستنزل بلبنان إلى أسفل دركات السلَّم إطلاقًا، فيما سيبلغ الانهيار في الداخل مدى يصعب تصوُّره. ومن باب الصدفة، سيكون "كورونا" عاملًا إضافيًا في الانهيار، لأن أعباء التصدّي للوباء تفترض تخصيص أكلاف إضافية في قطاع الاستشفاء والأدوية والأدوات الطبية كماكينات ضخّ الأوكسيجين في الرئتين، ويقال إن عددها ليس كافيًا لمواجهة التفشّي الكبير. وكل ذلك سيدفع لبنان إلى موقع ضعيف جدًا في المفاوضات.
وهذا الضعف لن يكون مقتصرًا على الشأن المالي، بل سيترجَم خصوصًا في المجال السياسي. وهنا بيت القصيد. وتحت هذا الضغط، هل سيتمكن لبنان من القول "لا" للأقوياء في مطالبهم السياسية؟
حينذاك، الأرجح أن رافضي صندوق النقد الدولي "سيترحَّمون" عليه وعلى مطالبه العاقلة المعتدلة، والتي كان يمكن أن تحدّ من الأضرار.
يقال بالفرنسية: "أن تأتي متأخِّرًا خيرٌ من ألّا تأتي أبدًا". ولكن، في لبنان، تأخيرُ جماعةِ السلطة لا يكون إلّا كارثيًا.
قد يهمك ايضا:أخطر ما جاء في خطاب دياب تعليق دفع سندات اليوروبوند
أنطوان صفير يؤكد أن عدم تسديد الديون اللبنانية سيترتّب عليه نتائج قانونية