بيروت - لبنان اليوم
هالَ السيّدة الخمسينيّة ما عاشته في ذلك الصباح من كانون الأول/ ديسمبر، الّذي حلّ على مدينة طرابلس شمال لبنان ببرد قارس تجاوز معدّلاته الموسميّة، وحلّ على بيتها في باب التبانة مع ما وصفته بـ"المصيبة": "لشدّة البرد وغياب سبل التدفئة، تبوّل زوجي في ثيابه. حاول إنكار الأمر، ليحفظ ما بقي من كرامته أمامي وأمام نفسه. هو يعاني أمراضاً مزمنة في جهازه التناسليّ، والبرد يُفاقم حالته. هل تستطيعين مساعدتنا في تأمين الحفاض له؟".
تروي تفاصيل الحادثة مروى بكر، العاملة الاجتماعية في جمعيّة "رواد التنمية"، التي تنشط في التبانة وجبل محسن والمحيط، خلال حديث له بشأن كيفيّة تصدّي المواطنين لبرد الشتاء في المناطق الأكثر حرماناً من طرابلس، "ساعدني محسنون لتجميع مبلغ من المال، فساعدت السيدة بكيس حفاضات، واقتطعت جزءاً من المبلغ للتدفئة. أرسلتُ من يُعبّىء جرّة الغاز الفارغة لتشغيل المدفأة. لكن الحلّ ليس مستداماً، وحاجات الناس في هذا الشتاء القاسي تفيض عن إمكانيات المساعدة".
ويشكو المواطن عمر مسلماني، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة، ويعيش وحيداً في نفس الشارع، من انعدام قدرته على تدفئة سكنه بسبب الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، لأن "التغذية الكهربائية في التبانة كانت بمعدّل ساعة يوميّاً. وبتنا نتنّعم بها لنصف ساعة. لا نستطيع تشغيل مدفأة الكهرباء. وبالكاد نستطيع شراء جرّة الغاز للأكل أو للاستحمام".
وبخلاف البلدات والقرى الجرديّة والداخليّة في عكار والضنية والبقاع والهرمل التي تعاني بطبيعة جغرافيتها انخفاضاً كبيراً في معدّلات درجات الحرارة شتاء، وتعتمد إجمالاً على المازوت والحطب للتدفئة، تعاني البيوت في أحياء طرابلس الأكثر حرماناً من فقر بنيويّ بسبب رطوبتها وعدم نفاذ الشمس إليها، ممّا يجعل برد الشتاء معاناة لا تُطاق، ولا شيء يُخفّف عنها اليوم، في ظلّ أزمتي الغاز والكهرباء.
هذا ما تُوضحه مروى بقولها "أغلبيّة بيوتنا في المناطق الداخلية لا ترى الشمس. إن دخلناها لا نشمّ سوى رائحة العفن. وهذا بالطبع يُفاقم معاناة الأهالي، لدرجة أنّ سيدة من عكار قالت لي ذات يوم إنّ البرد في هذه البيوت الطرابلسية أشدّ فتكاً من برد عكار".
ويتفاعل البرد في الأحياء الداخلية والأسواق مع "نقص التغذية وحالات فقر الحديد المزمنين والمنتشرين بمعدّلات هائلة في مناطقنا المحرومة، أضيفي إلى معاناة شريحة واسعة من هؤلاء السكان مع الربو وأمراض التنفس، والروماتيزم. البرد يتغلغل في العظم. حالات مأسويّة تردنا يومياً إلى مكاتبنا، طلباً للنجدة بالتدفئة أو بالدواء. لكننا لسنا جمعيّة خيريّة. وفي حين كنا في السنوات السابقة نربط هذه الأسر بجمعيّات خيريّة من خلال نظام إحالة، إلا أنّ الجمعيات هذه السنة مُتخمة بمستفيديها الأساسيين بسبب انحلال الأوضاع"، وفق الناشطة.
وتستطرد "الأمهات يشتكين لي من معاناة استيقاظ الأطفال للذهاب إلى المدرسة. كنّا في السابق نستطيع إشعال المدفأة الكهربائية أو الغاز للطفل، وتدفئته عند استيقاظه، ليستطيع الذهاب إلى المدرسة بمعاناة أقلّ، وقد نستلحق مريوله الذي لم ينشف بتنشيفه على النار. الأمر ما عاد ممكناً".
وتتساءل عن قدرة أهالي طرابلس على تحمّل البرد في ظلّ انقطاع الكهرباء المتواصل، والكثيرون من التبانة فسخوا اشتراكاتهم بمولدات الكهرباء، و"سيعودون للاشتراكات في الصيف ليستطيعوا تشغيل مروحة". فقد لامست تعرفة الـ5 أمبير المليون ونصف المليون ليرة، ناهيك بمولّدات اشتراك تتحكّم برقاب الأهالي، إذ تشترط الدفع بالدولار بمعدّل 12-20 دولاراً لاشتراك بقوّة 5 أمبير.
ويتمدّد العجز مع وسائل التدفئة البدائية التي كانت تعتمد في مناطق طرابلس الشعبية. بين 45 ألف سعر كيلو الفحم للتدفئة، و300 ألف ليرة سعر جرة الغاز للطبخ، وتستخدم اليوم أيضاً لتسخين المياه من أجل الاستحمام، يقف أرباب الأسر بلا حول ولا قوة، و"المحظوظ" منهم يتقاضى 100 ألف ليرة يومياً، في وقت تدهورت قدرته الشرائية بنسبة 200 في المئة.
الانحلال الاقتصادي صرف جهود الجمعيات المحليّة نحو الطعام والدواء. واقع أكّده الناشط في مبادرة "راحمون" الخيرية، مصطفى الأخرس، فأشار إلى "ضيق هوامش تلبية الحالات التي تشكو البرد، لأنّ الجمعية وجدت أولويّاتها في المساعدة بالاستشفاء والطبابة والدواء والمؤونة، وهي بحدّ ذاتها هائلة".
ومع تضاعف صرخات الأهالي، تتحسّس الجمعيات والمبادرات المحليّة الحاجة لإغاثتها، فبدأت تنشط في إمدادهم لوقايتهم من البرد. "الدفى عفا" مثلاً، حملة أطلقها الناشط السياسيّ مالك مولوي برعاية "مؤسسة العلامة فيصل مولوي الإنسانية"، فوزّع "حرامات" على مئة عائلة في منطقة الميناء، على أن يصل إلى ألف عائلة في مناطق أخرى من طرابلس.
يعتبر مولوي في ظلّ العوائق المذكورة "أنّ الحرامات هي الخيار الأوحد للتدفئة".
حصيلة المشهد أن طرابلس بالرغم من كونها مدينة بحريّة، فذلك لم يشفع لها في تلطيف البرد. ولفقراء المدينة من كلّ أزمة نصيب، بل "حصة الأسد"، يعيشونها بالتمايز الدراماتيكيّ الّذي ينطوي على سرديّة خاصّة، تسلكها مدينتهم في كلّ أزمة وطنية. كرامة المواطنين هنا تتداعى كلّ يوم أكثر. وحدها وجوه سياسيي طرابلس من عمالقة الثروات ثابتة جيداً، فلا تتزحزح. تنتصب صورهم الضخمة شاهدة زور فوق عشوائيّات تأكلها العتمة والبرد. لا مبالون مهما حصل!
وقد يهمك أيضا
قائد الجيش العماد جوزاف عون يتفقد ويطمئن على طلاب الكلية الحربية