بيروت - لبنان اليوم
الثابت في تاريخ البطاركة الموارنة أنّهم شكّلوا سلسلة مترابطة كجبال لبنان التي لا تنكسر. من البطريرك المؤسّس مار يوحنا مارون إلى البطريرك المُكمّل مار بشارة بطرس الراعي. لم يعرفوا يوماً شغوراً في كرسيّ رئاستهم. لم يتقاعسوا أبداً عن انتخاب خادمهم الأوّل في مجلس أساقفتهم. لا فراغ ولا احتيال على دستورهم. مواعيدهم ثابتة كالطبيعة وأنظمتها. مؤسستهم عريقة وثابته، ونشأتها سابقة للدولة. انتزعوا مجدهم من جلجلتهم المتنقّلة بين يانوح وكفرحي وإيليج وقنّوبين وصولاً إلى بكركي. فكان هذا يُهان، وذاك يُشرّد، وذلك يُساق إلى محكمة، وآخر يُقاوم، وهذا يُحرق حيّاً، وذاك يُخوّن. فما زمانهم سوى سنوات من الشهادة والإستشهاد.
اختلفت أطباعهم وشخصياتهم، لكنّهم لم يحيدوا قيد أنملة عن خطّهم ورسالتهم الإيمانية والوطنية. إذ قيل إنّ الواحد منهم يحمل في قلبه قلبيْن. واحد نحو السماء والثاني نحو لبنان. وأصبح التمايز بين مسؤوليتهم الروحية والزمنية صعباً حتى على أبناء طائفتهم. بعضهم يريدهم قادة سياسيين، فارضاً عليهم معاييره الشخصية وأخلاقياته السياسية. البعض الآخر يدعوهم إلى الإنكفاء داخل أبواب الكنيسة، حسب تطابق مواقف البطريرك مع زعيمهم السياسيّ أو تعارضها.
خاضوا السياسة من رتبتها النبيلة، أي ما يتعلّق بالخير العام والمصلحة الوطنية. تعالوا على الجراح والإساءات التي أصابتهم جسدياً ومعنويّاً من أهل بيتهم قبل غيرهم. وقفوا سدّاً منيعاً في وجه كل احتلال، لكنّهم لم يغلقوا بابهم بوجه ألدّ أعدائهم. فالصرح البطريركي قبل كلّ شيء هو دير يحمل اسم «سيّدة بكركي».
هكذا هم البطاركة قبل الـ77 وبعده. لا شكّ أن للبطريرك الراعي شخصية تختلف عن سلفه، والأخير عن سابقيه، وهذا ما سيكون عليه من يخلفهم. لكن ما يجمعهم هو أنهم لم يُقفلوا أبواب كرسيهم أمام زوّارهم، أكانوا من الموالين أو المعارضين. وإذا كان البعض ينتقد استقبالات الراعي لشخصيات سياسية تُعارض توجهات الكنيسة الوطنية، أو كان لها تاريخ عنيف مع جزء من المسيحيين أو غالبيتهم، فهذا لا يتعارض مع ثبات البطاركة ومواقفهم.
في هذا السياق، ورداً على الإنتقادات التي تعرّض لها البطريرك الراعي بسبب بعض استقبالاته، خصوصاً على مواقع التواصل الإجتماعي، يستغرب مصدر كنسي لـ»نداء الوطن» استهجان البعض، لافتاً إلى شخصية الراعي المنفتحة منذ رعايته أبرشية جبيل المارونية وقبلها، فهو يستقبل زواره جميعاً أكانوا كباراً أم صغاراً، من سياسيين أو مواطنين عاديين «بذات الطريقة». يتأهّل بهم مبتسماً وفاتحاً يديه. فالبطريرك قبل أن يكون رمزاً ومرجعاً وطنيّاً، هو «رجل المسيح» ورأس الكنيسة. ومن يريد انتزاع هذه الصفة منه أو وضعها في رتبة أدنى، فهو يجرّده من شخصيته الأساسية. ولن يكون بطريركاً. ومن يريد إغلاق بكركي بوجه أي إنسان أكان يرى نفسه صالحاً أو طالحاً، شريفاً أو فاسداً فهو يضرب معنى الكنيسة وجوهر قيمتها وقيمها.
بالعودة إلى زمن البطريرك الراحل نصرالله صفير، وفي قسوة الإضطهاد التي مارسها الإحتلال السوري وأعوانه في لبنان بحق المسيحيين والكنيسة، لم يردّ زائراً أو حامل رسالة من دمشق. فكان يسمع ما عندهم ويفعل ما عنده. كما أنّه استقبل عشرات المرّات سياسيين لبنانيين وقادة أجهزة أمنية أمعنوا في ظلم القوى السيادية والمناهضة للنظام الأمني اللبناني – السوري. في عزّ الحرب الأهلية التي قطعت أوصال اللبنانيين، وفيما مؤسسات الدولة منهارة وخطوط التواصل بين اللبنانيين باردة، كانت أبواب بكركي مفتوحة أمام الجميع.
ثمّ أن مسار الراعي أثبت مدى عناده وثباته في مواقفه الوطنية. فهو صلب على قدر انفتاحه. لا يرضخ للضغوط. قصد رعيته في سوريا رغم معارضة الكثيرين وبقيت مواقفه الوطنية والسيادية ثابتة. وفي سابقة تُسجّل له، حجّ إلى الأراضي المقدّسة متفقداً أبناء كنيسته، رغم كلّ أبواق التخوين والتشكيك بوطنيته. لم تُشوّش على صوت ضميره المستمدّ من إيمانه. فالبطريرك لا يُفصّل على قياس القوى السياسية ومصالحها ولا على نزعات ومشاعر جماهيرية إنفعالية، لا ترى في البطريرك سوى صورة أو طريقة استقبال. ما يقوم به الراعي، لا يختلف عن أسلافه. هكذا كانت البطريركية وهذا ما ستكون عليه.
قد يهمك ايضاً