«ثورة الجياع» في وسط بيروت

ينزل السّلم رويدًا. بيَد يُمسك عصاه السميكة وباليد الأخرى يتمسّك بالحافّة. يصل إلى الطريق قرب “مستشفى المقاصد” في منطقة طريق الجديدة، وينتظر هناك. مرّ وقت طويل وهو ينتظر سيّارة أجرة تقلّه إلى مكان الاعتصام في رياض الصلح - وسط بيروت، وقد يطول الانتظار. إنّه صباح يوم أحدٍ مشمس، كان يمكن أن يقضيه على شرفة منزله الصغير، ولكنه أبى إلّا أن يشارك في “الثورة”.

يعرف ابن السبعين عامًا أنّ نزول الناس إلى الشارع لن يُسقط نظامًا تضرب جذوره في الأرض منذ سنوات، فهو عايَش الكثير من “الثورات” التي لم تأتِ بنتيجة، وعلى رغم ذلك أصَرّ على النزول، فهو لا يريد شيئًا إلّا أن يدعو الشباب إلى عدم إيمانهم بهذه الطبقة السياسيّة التي تتحمّل جزءًا من المسؤوليّة عمّا وصلت إليه حالته الصحيّة. عيناه مغرورقتان بالدموع، وهو يروي معاناته إلى سائق سيّارة الأجرة الذي كان يحاول ثَنيه عن المشاركة في هذه التظاهرة، قبل أن يترجّل السائق من مقعده ليساعد الرجل المُسنّ في النزول.

يَشقّ الرجل، الذي يرتدي عباءة وقلنسوة بَيضاويتين وفي رقبته سُبحة خشبيّة، طريقه إلى رياض الصلح ببطء، فهو بالكاد يستطيع المشي. يلاحظ عدد من المشاركين في التظاهرة مروره أمامهم، فيسارعون إلى الإمساك بإحدى يديه.

يومئ الرجل برأسه وهو يقرأ كلمات اللافتة “يا حكّام الأرض... الشعب جاع” التي رفعها أحد الشبّان الذي يمشي بالقرب منه. يتلفّت حوله باحثًا عن صوت مرتفع يردّد أغنية “شيّد قصورك ع المزارع... من كدّنا وعمل إدينا”، ليَجد مجموعة من الشبّان والشابّات يفترشون الأرض أمام “كاتدرائيّة مار جرجس”، فيما يهتف آخرون “الشعب يريد إسقاط النظام”.

الكثير من المشاهد تلفت نظر الرّجل السبعيني، متمنيًا في سرّه لو تنجح هذه الثورة وتتحقّق مطالب هؤلاء الشبّان الذين يرفعون لافتة بيضاء كُتِب عليها باللون الأحمر: “يسقط العهد... تسقط الحكومة”، “إرحلوا يا عهد ويا حكومة”، وآخر يجلس عند زاوية الطريق لاصقًا فمه بعملة ورقيّة بقيمة ألف ليرة احتجاجًا على الوضع المعيشي وإمكانيّة تدنّي سعر العملة الوطنيّة.

وما إن يصل الرجل إلى أمام السراي الحكومي، حتى يتحلّق حوله عدد من الصحافيين والمشاركين، يسألونه عن اسمه وسنّه. يقول الرجل بصوت متهدّج: “أنا الحاج أحمد عفارة”. لا ينتظر الرجل السبعيني أن يُكملوا أسئلتهم، فهو يعرف جيّدًا ماذا يريد.

يردّد بصوت مرتفع: “أنا موجوع... موجوع... والله العظيم موجوع”. تُسكِت دموع الرجل، التي تنسَكب على لحيته البيضاء، المتحلّقين حوله. ويُكمل حديثه متوجّهًا إلى السياسيين: “جميعكم خونة، لو كنتم تعتبرونني كوالدكم، لكنتم ساعدتموني على الدخول إلى المستشفى”.

تختصر صرخة الحاج أحمد أوجاع المحتجّين في وسط بيروت. تبدو صرخته أعلى، ولكنها لا تختلف عن صرخة الشبّان والشابّات الذين انتفضوا لمستقبلهم، في بلدٍ يحرمهم أبسط حقوقهم في العمل والاستشفاء والتعليم والكهرباء والسّكن والاستقرار والمعاش التقاعدي والبيئة النظيفة... وغيرها من الحقوق الطبيعيّة.

أراد الحاج أحمد أن يُكمل نهاره في الـ”ميني ثورة”، لكنّ تَحَوّل الانتفاضة السلميّة إلى إحراق إطارات ورَشق القوى الأمنيّة بالحجارة والمواد الصلبة (منها البلاط)، والتّدافع بين القوى الأمنيّة وبعض المتظاهرين وعدد من الاعتداءات على محال تجاريّة ومراسلين، حالَ دون ذلك.

يسمع أبو أحمد ما يقوله المتظاهرون انّ “طابورًا خامسًا” من القوى السياسيّة خرق هذه التظاهرة لإفشالها. يهزّ رأسه يمينًا ويسارًا لأنّه كان متأكدًا أنّ “الثورة” في لبنان صارت وكأنّها لا تُغني ولا تسمن من جوع. يعود أدراجه إلى منزله في البربير، قبل أن تتعهّد إحدى الجمعيّات بمتابعة وضعه الصحي واستقباله في مقرّها.

وكان المحتجّون قد انطلقوا من ساحة الشهداء نحو رياض الصلح بالقرب من السراي الحكومي، حيث حاولوا دخوله باجتياز الحواجز والأسلاك الشائكة، بينما تمركزت قوات مكافحة الشغب في الموقع. فيما حاولت مجموعة الدخول إلى ساحة مجلس النوّاب عبر أحد الممرّات الفرعيّة، إلّا أنّ القوى الأمنيّة كانت لها بالمرصاد.

وانتقل عدد من المحتجّين إلى منطقة “الرينغ”، حيث افتَرش البعض الطريق، فيما أشعلَ آخرون الإطارات، قبل أن تتدخّل قوة مكافحة الشغب لتحصل مواجهة بين القوى الأمنية والمعتصمين سقط على أثرها جريح، ورَشق المعتصمون القوى الأمنيّة بالحجارة، ثم تراجعوا إلى ساحة بشارة الخوري لتعيد القوى الأمنيّة فتح جسر “الرينغ”.

وعند العصر، إرتفعت وتيرة الاحتجاجات، إذ عمد المحتجّون إلى قطع شوارع وطرق، وإشعال الإطارات في المناطق المحيطة بوسط بيروت، وأهمّها من: مبنى جريدة “النهار” في اتجاه “مسجد الأمين”، النفق الذي يربط الحمرا بطريق سليم سلام، عند مستديرة الكولا.

وجالت مجموعات من المتظاهرين على الدراجات الناريّة في زقاق البلاط وكركول الدروز وشارع مار الياس، حيث قاموا بأعمال شغب، وقطعوا الطريق بوَضع مستوعبات النفايات وسطها.

ووصلت الاحتجاجات إلى قلب الضاحية الجنوبية، حيث قطعت طريق المطار قرب مدخل حي فرحات بالاطارات المشتعلة، والطريق عند مستديرة الجندولين - السفارة الكويتيّة.

وكانت حصيلة الاحتجاجات، إصابة ضابط برتبة ملازم أول و3 عناصر من قوى الأمن الداخلي بجروح خلال قيامهم بضبط الأمن، بالإضافة إلى جريح من جهة المحتجّين وعدد من الموقوفين بحسب ما تَردّد.

ولم تقتصر الاحتجاجات على بيروت فقط، وإنّما اتّسَعت رقعة التحرّكات الاحتجاجيّة لتصل إلى المناطق، بعد أن شارك عدد من المواطنين باعتصامات ومسيرات احتجاجًا على الوضع المعيشي والاقتصادي وغياب الخدمات، رافضين زيادة الضرائب على كاهلهم. فقطعوا طرقات رئيسيّة تربط مناطقهم بالعاصمة بيروت، لتَتقَطّع أوصال البلد وتزدحم الطرقات التي أقفل بعضها غير مرة ليلًا، لتعود القوى الأمنيّة وتتمكّن من فتحها.

الشمال

وجاء اعتصام طرابلس كإشارة إلى ارتفاع منسوب الغضب في الشارع، إذ نزع عدد من المعتصمين صورًا كانت قد عُلّقت سابقًا في ساحة النور، وعمدوا إلى إحراقها مع بعض اللافتات التي كتبت عليها مقولات لسياسيين من المدينة، وكِيلت الشتائم لأصحابها.

وانطلق المعتصمون بمسيرات من الأسواق الداخليّة لطرابلس، وجابوا الشوارع الرئيسيّة والفرعيّة وصولًا إلى ساحة النّور وسط المدينة، مُرددين هتافات تطالب بإسقاط الحكومة، قبل أن يقطعوا أوتوستراد طرابلس - بيروت في الاتجاهين، أكثر من مرّة. كما جال عدد من الدرّاجين أحياء وشوارع عدة في طرابلس، منها الزاهرية والتل والمصارف وكرم القلة، وصولًا إلى ساحة عبد الحميد كرامي.

وخلال الاعتصام، ألقيت كلمات نَدّدت بالحرمان المزمِن للمدينة، مطالِبةً بـ”رحيل العهد والحكومة”، ومؤكّدة أنّ “الاعتصام مستمر اليوم وغدًا وفي الأيام المقبلة حتى تحقيق كل المطالب”.

وعند العبدة على المدخل الجنوبي لمحافظة عكار، إعتصم عدد من الناشطين بمشاركة عدد من المخاتير والفاعليات.

وفي الشمال أيضًا تمّ قطع الطريق عند مفرق بلدة بحنين، وفي المنية عند مفرق البحر المتوسط.

كما حاول بعض الشبّان قطع الطريق العام في بلدة بخعون بالإطارات المشتعلة، احتجاجًا على تردي الأوضاع الاقتصادية وتراكم النفايات في الشوارع، لكنّ أهالي المنطقة منعوهم من ذلك، وعمدوا إلى فتح الطريق بالقوة. وسجّل إطلاق رصاص في الهواء خلال فتح الطريق.

وفي عكّار، عَمَد عدد من الشبّان إلى إضرام النار بإطارات وُضعت على الطريق العامة عند مفترق بلدة منيارة، ما تسبّب بإقفال الطريق بشكل جزئي وبزحمة سير.

الجنوب

ومن الشمال إلى الجنوب، وصل صَدى الاحتجاجات، وكانت عناوين المطالب واحدة، إذ قطع أوتوستراد صور صيدا بالقرب من جامعة “فينيسيا” جزئيًا بالإطارات المشتعلة من قبل بعض المحتجّين.

كما قطع أوتوستراد حبوش - النبطية وأوتوستراد الزهراني عند مفترق السكسكية، وردّد المحتجّون الذين أضرموا النار في الإطارات، هتافات تُندّد بما وصلت إليه أوضاعهم الإقتصادية من “سوء وتدهور وعَوَز”.

وتجمّع عدد من الشبّان عند مثلّث دير ميماس القليعة - تل النحاس، وحاولوا قطع الطريق بالجلوس على الأرض، ثم أحضروا دواليب لإشعالها، لكنّ عناصر القوى الامنية والجيش، الموجودين بكثرة في المكان، منعتهم من القيام بذلك.

جبل لبنان

وفي جبل لبنان، قطعت طريق صيدا القديمة في الشويفات، في مكانين: بين محطة الريشاني ومفرق كفرشيما، وقرب مركز الضمان باتجاه خلدة، طريق عام صوفر- المديرج الدوليّة.

كما قطع أوتوستراد المتن السريع في اتجاه بعبدات بالإطارات المشتعلة جزئيًا من قبل بعض المحتجّين لتزدحم الطريق بالسيارات المتوقفّة، بالإضافة إلى قطع أوتوستراد طبرجا المسلك الغربي بالإطارات المشتعلة.

البقاع

أمّا في البقاع، فقد كانت وتيرة الاحتجاجات أكثر تمدّدًا. إذ قطع المحتجّون طريق المصنع، ثم قطعوا طريق الفرزل - الكرك بالإطارات المشتعلة على الاتجاهين، والطريق الدوليّة شتورا - زحلة - بعلبك عند منطقة جلالا. وحاول عدد من المحتجّين إحراق الإطارات في منطقة تعلبايا، إلّا أنّهم لم يفلحوا في ذلك. فيما انطلق أبناء تعلبايا وسعدنايل بمسيرة شعبيّة على الطريق العام للبلدتين باتجاه مدينة زحلة، ما تسبّب بزحمة سير.

كما تجمّع عشرات المحتجّين على طريق رياق - حمص الدوليّة عند مفرق بلدتي بريتال والحمودية، إحتجاجًا على الفساد وتردي الوضع المعيشي، ورفعوا لافتات تطالب بمحاسبة الفاسدين، وبتأمين الاستشفاء وفرص العمل والخدمات.

وتحدث الناشط جمال صالح باسم المحتجّين، فقال: “تحرّكنا اليوم ليس موجّهًا ضد شخص أو تيّار معين، تحرّكنا في وجه الذي سرق المال العام وما زال يُنصِّب نفسه زعيمًا على الشعب”.

وأمام سراي الهرمل الحكومي، إعتصم العشرات من المواطنين رافعين شعارات تُندّد بالفساد والإهمال. وتمّ قطع السير لبعض الوقت، وسط إجراءات لقوى الأمن الداخلي التي عملت على تحويل السيارات إلى شوارع فرعية.

كما قطعت الطريق الدوليّة عند دوار بلدة دورس لجهة مدخل بعلبك الجنوبي، حيث تحدّث أحد الداعين قائلًا: “إسمحوا لي أن نبدأ بالوقوف دقيقة صمت عن روح كل شخص توفي أمام باب مستشفى، وكل مريض توفي لأن لا قدرة له على تأمين ثمن الدواء، وعن روح كل مواطن قضى بحادث سير نتيجة سوء حال الطرقات، وإلى روح كل عسكري استشهد ليدافع عنّا”.

 ... وقوى الأمن توضح “فيديو” ضرب مُلثّمين

أكّدت المديرية العامة لقوى الامن الداخلي “احترامها الكلّي لحق المواطنين في حرية التعبير والتظاهر السلمي، وترفض أي أعمال تخالف القوانين وتسبّب الفوضى”.

وعلّقت، في بيان صادر عن شعبة العلاقات العامة، على مقطع “فيديو” تَداولته وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، يتضمن “إقدام عناصر من قوى الامن الداخلي على الاعتداء على أحد المواطنين، تحت جسر فؤاد شهاب أثناء التظاهر رفضًا للواقع المعيشي”، فأوضحت:

“في ما يتعلق بمقطع “الفيديو” المتداوَل، جَرت محاصرة 5 عناصر من قوى الامن الداخلي المولَجين حفظ الامن والنظام، تحت جسر فؤاد شهاب من قبل مواطنين مُقنّعين، أقدموا على رَشقهم بالحجارة والمواد الصلبة، وعند احتمائهم بالدروع، جرى نَزعها منهم، وتحطيم أحدها عليهم، ثم عاوَدوا رَشقهم بالحجارة الحادّة، (بلاط)، أمام هذا الواقع، وللدفاع عن أنفسهم، قام العناصر بردّة فِعل شديدة وعنيفة، وتعرّضوا لبعض المهاجمين بالضرب، ولاسيما الشاب المُشاهد في “الفيديو”.

وقد أصيب أحد العناصر الذين تعرّضوا للرشق والضرب، ونُقل إلى المستشفى”. وأثنَت المديرية “على الانضباطية والالتزام بالقانون من قبل قطعات قوى الأمن الداخلي، التي قامت بواجبها للمحافظة على مبدأ حرية التعبير ضمن القانون، وقد أُوقِف العناصر في الفيديو فورًا، لأنهم لم يحافظوا على رباطة جأشهم بدلًا من المبادرة إلى توقيف المعتدي”.

وختمت بيانها: “كان من الأجدى على الذين قاموا بتصوير مشهد هذا الفيديو، أن يعمدوا إلى تصويره كاملًا وليس مُجتزأ، وذلك احترامًا للحقيقة والمهنية والكرامة الانسانية”.

قد يهمك ايضا:

قوى الأمن اللبناني تؤكد أن قطعاتهم قامت بواجبها للمحافظة على "حرية التعبير"
مظاهرات حاشدة وسط بيروت ضد تدهور الأوضاع المعيشية واستمرار الأزمات الاقتصادية