بيروت - لبنان اليوم
«بدلاً من أن يكون التعليم العامل الممكّن العظيم، فإنه الآن يتحوّل بسرعة إلى الفاصل العظيم. يتمتع الأثرياء بإمكانية الوصول إلى أفضل الموارد والمدارس والجامعات، مما يمكّنهم من الحصول على أفضل الوظائف، بينما يواجه الفقراء، وخصوصاً الفتيات، عقبات كبيرة في الحصول على المؤهلات التي تمكّنهم من تغيير حياتهم»، على حدّ تنبيه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.يعرّف البنك الدولي التعليم بأنه «حق من حقوق الإنسان ومحرك قوي للتنمية وأحد أقوى أدوات الحد من الفقر وتحسين الصحة والمساواة بين الجنسين والسلام والاستقرار. ويعتبر ضخ استثمارات فعالة في تعليم الناس أمراً بالغ الأهمية لتنمية رأس المال البشري الذي هو من سينهي الفقر المدقع».
فيما يذهب آخرون أبعد في توصيفهم للتعليم بأنه «ليس مجرد حق، بل هو أيضاً شريان حياة»، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) التي تعتبره هندسة مجتمعية تحضّر أجيال الحاضر لاستحقاقات المستقبل.في السنوات الأخيرة، تعرض قطاع التعليم لانتكاسة عميقة جرّاء عوامل عديدة، منها تفشي جائحة كورونا، التي فرضت إغلاقاً لمدة عام، والتوجه قسراً نحو خيار التعلم عن بعد، وهو ما كانت له تداعياته السلبية على القطاع ككل.فالجائحة أدت من ضمن تداعياتها المتشعبة، إلى «أسوأ أزمة في التعليم على مدى القرن الماضي»، بحسب البنك الدولي. ففي ذروة إغلاق المدارس في أبريل (نيسان) من عام 2020. كان 94 في المائة من الطلاب - أو 1.6 مليار طفل - غير ملتحقين بالمدارس في جميع أنحاء العالم.
وسجل قطاع التعليم المزيد من التدهور لاحقاً مع اندلاع أزمات اقتصادية، كان أبرز معالمها تراجع دراماتيكي في عملات الدول المحلية، كما هو حال العديد من الدول العربية. وهو ما أجبر الحكومات على تقليص الإنفاق في موازناتها على قطاع التعليم.مما لا شك فيه أن أزمة التعليم لم تبدأ أصلاً مع انتشار «كورونا». ففي الدول العربية التي تأثرت جميعها بـ«كورونا»، كانت الهوة واسعة قبل الجائحة، بين دول تتمتع بمنظومة تعليمية قوية ومنافِسة حتى عالمياً وتُسخَّر لها الموارد المهمة في إطار التنمية البشرية، الأساس للتنمية البنيوية بشموليتها؛ وبين أخرى تعاني خللاً متراكماً منذ عقود في أنظمتها التعليمية جرّاء ضعف الموارد أحياناً، أو بسبب عقل سياسي مستبد أقام مجرد مبانٍ، وتلاعب بالمناهج بغاية فرض خياراته المجتمعية.
كما أنّ اضطرابات سياسية، بل وحروباً أهلية وأزمات اقتصادية متلاحقة وفساداً مؤسساتياً، استنزفت دولاً عربية كانت تمتلك موارد النهوض وبناء مستقبل واعد لأجيالها، فيما أعادت دول «مضعضعة» أصلاً عقوداً، بل ربما قروناً إلى الوراء، ففقدت منظومات التعليم جدواها الإيجابي وصارت «مناهج الأمية» هي القاعدة.هو حال السودان مثلاً الذي لا يعرف ثلث أطفاله الذين في سن الدراسة مبادئ القراءة والكتابة، أو الحساب والمهارات الرقمية.فيما خلّفت الهجمات التي تعرض لها أطفال المدارس والمعلمون والبنية التحتية التعليمية في اليمن، آثاراً مدمرة على النظام التعليمي وعلى فرص الملايين من الأطفال في الحصول على التعليم.
وفي العراق التي تصل فيه نسبة الأمية إلى 31 في المائة بين الذكور والإناث، فإن إهمال الحكومات والتدخلات السياسية أمور أضرّت بمجال التعليم.ولعل الواقع المتردي للتعليم ليس أشد ما ينتظر مستقبل سوريا التي يتناهب جغرافيتها صراع أفرز ثلاث مناطق نفوذ، لكل منها منهاج تعليمي يعزز آيديولوجية القوى المسيطرة.وفي تونس، تظهر تجليات ضعف التحصيل العلمي في خروج نحو 100 ألف طفل من المدارس كل عام.وفي لبنان يعيش القطاع أسوأ مراحله، مع تحوّل الطلاب المنتسبين إلى المدارس والمعاهد والجامعات الحكومية إلى ضحايا، بفعل ضياع الأعوام الدراسية الأخيرة، تارة جرّاء الإضرابات المتلاحقة للمعلمين.أما في فلسطين، فطلابها مهددون بالقتل والاعتقال، ومدارسها مهددة بالهدم والقصف رغم أن الأرقام الرسمية تظهر أن الأمية في فلسطين من أقل المعدلات في العالم. تستعرض فيما يلي وضع التعليم في عدد من الدول العربي:
- اليمن: ملايين الأطفال يواجهون مخاطر التسرب والتجريف الحوثي
لم تستثنِ الحرب التي تسبب فيها الانقلاب الحوثي في اليمن، أي جانب من جوانب الحياة إلاّ وألقت بظلالها القاتمة عليه، وصولاً إلى العملية التعلمية، التي وصلت إلى شفير الهاوية، حيث بات أكثر من 10 ملايين طفل في مراحل التعليم في حاجة إلى شكل من أشكال المساعدة من أجل الصمود.بحسب تقارير أممية، تسبب القتال في خروج أكثر من 2900 مدرسة عن وظيفتها خلال ثماني سنوات، إما نتيجة لتضررها كلياً أو جزئياً، أو جراء تحويلها إلى ثكنات عسكرية أو مخازن للأسلحة، كما هو الحال في بعض المناطق التي سيطرت عليها الميليشيات الحوثية أو في مناطق التماس مع سيطرة الحكومة الشرعية.
وبسبب الآثار التي نجمت عن الانقلاب الحوثي، قادت ظروف الفقر وانعدام سبل العيش إلى تسرب أكثر من مليوني طفل من العملية التعليمية، بحسب البيانات الأممية.وطبقاً للمعلومات التي وثّقتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، هناك أكثر من ثمانية ملايين طفل في مختلف مراحل التعليم يحتاجون إلى دعم لمواصلة تعليمهم. في وقت تعرضت مدرسة من بين كل أربع مدارس للتدمير أو التضرر أو استخدامها لأغراض غير تعليمية.وتؤكد «اليونيسف» في تقاريرها أن اليمن يواجه أزمة حادة في التعليم، حيث من الممكن أن يصل عدد الأطفال الذين يعانون من الاضطرابات التي تلحق تعليمهم، إلى ستة ملايين طالب وطالبة.
وانتهجت الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران في المحافظات التي تسيطر عليها، سياسة قادت إلى تجريف التعليم، سواء من حيث تطييفه عبر تغيير المناهج بما يناسب توجهاتها الفكرية ذات الصبغة الطائفية، أو من خلال عمليات التعسف التي ترتكبها بحق عشرات الآلاف من المعلمين والمعلمات والعاملين في الحقل التربوي.وقاد رفض الميليشيات الحوثية صرف رواتب أكثر من 130 ألف معلّم ومعلّمة في مناطق سيطرتها، إلى انقطاع معظمهم عن أداء وظائفهم، والانصراف إلى مهن أخرى، وهو ما دفع الميليشيات إلى الاستعانة بموالين لها لا يحملون أي خبرات، لتلقين التلامذة في المدارس أفكار الجماعة وزعيمها وحضهم على الانخراط في القتال.
تؤكد «اليونيسف» أن النزاع والتعطيل المستمرين للعملية التعليمية في جميع أنحاء اليمن وتجزئة نظام التعليم شبه المنهار أصلاً، كان له تأثير بالغ على التعلم والنمو الإدراكي والعاطفي العام والصحة العقلية لكافة الأطفال في سن الدراسة والبالغ عددهم 10.6 ملايين طالب وطالبة.وتشير تقارير المنظمة الأممية، التي حاولت خلال سنوات الحرب أن تسهم في تحسين العملية التعليمية من خلال ما تحصل عليه من تبرعات الجهات المانحة، وفي مقدمتها المانحون السعوديون والخليجيون، إلى أن الهيكل التعليمي يواجه مزيداً من المعوقات تتمثل في عدم حصول أكثر من ثلثي المعلمين (ما يقرب من 172 ألف معلّم ومعلّمة) على رواتبهم بشكل منتظم منذ عام 2016 أو أنهم انقطعوا عن التدريس بحثاً عن أنشطة أخرى مدرة للدخل.
وفيما تكافح الحكومة الشرعية في المناطق الخاضعة لها من أجل استمرارية فتح المدارس أبوابها، أدى فصل الحوثيين للنظام التعليمي من خلال تغيير المناهج، إلى وجود أجيال متضاربة فكرياً وعقائدياً.وإلى جانب ضعف مخرجات النظام التعليمي في اليمن عامة، تقدّر تقارير حكومية وأخرى أممية أن نسبة الأمية فيما يتعلق بالقراءة والكتابة لا تزال عند مستويات 65 في المائة على الأقل.
- العراق: إهمال الحكومات والتدخلات السياسية أضرّت التعليم
كان العراق يتبوأ مراكز متقدمة في جودة التعليم ومحو الأمية في سبعينات القرن الماضي، لكنه سجل مستويات متدنية جداً قبل 2003 بسبب الظروف التي أدت إلى ذلك في تلك الفترة، ولم يشهد تطوراً ملحوظاً بعد ذلك التاريخ.يقول مسؤول سابق في وزارة التعليم العالي إن مستوى التعليم استمر في التراجع منذ عام 2003 لأسباب عديدة، بينها «عدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بمستوى التعليم من خلال افتقار التخصيصات المالية ضمن الموازنة العامة، وغياب التخطيط والبرامج المعنية في النهوض بمستوى التعليم».
ويضيف المسؤول الذي يفضل عدم الإشارة إلى اسمه لـ«الشرق الأوسط»، أن «معظم الحكومات سعت إلى التدخل في كل المناصب الإدارية للجامعات والكليات عبر المحسوبية والولاءات الحزبية، وهذا ما أدى إلى تفشي الفساد في أروقة الجامعة، وأثّر ذلك بكل مفاصل التعليم من الطالب والتدريسي وصولاً للكوادر الإدارية».ويشير إلى «تدخل الأحزاب في قرارات المؤسسات التعليمية، وبالأخص مجلس النواب الذي صار يحدد طبيعة الدراسة ومدتها ونوع القبول، دون الرجوع للمختصين، مما أثّر بشكل واسع في سير العملية التعليمية».
وإلى جانب كل ذلك، والكلام للمسؤول السابق: «شكّلت وسائل الفساد في تعيين الخرّيجين سبباً رئيسياً في غياب التقدم النوعي لمستوى الدراسة. إذ لم يعد يجدي تفوق الخريج أو مستواه في ظل التعيين عبر المحسوبيات والواسطة ووسائل الفساد الأخرى، مما تسبب بخروج معظم جامعات البلاد من التصنيفات العالمية المعتمدة».ويتحدث الكثير من المختصين في مجال التعليم عن كيفية تخرّج بعض الطلبة من الجامعات حيث حملوا شهادات عليا من دون أن يجيدوا القراءة والكتابة.
ويعزو أستاذ اللغة العربية في الجامعة المستنصرية مؤيد صوينت تراجع التعليم العالي في العراق إلى أسباب عديدة، منها «تسييس الجامعات وجعلها تابعة للأحزاب، مما أدى إلى ضعف القيادات الجامعية وتقديم الولاء على الكفاءة».وتشير إحصاءات رسمية إلى حاجة البلاد إلى نحو 8 آلاف مدرسة ابتدائية، مما يعنى أن إدارات المدارس تضطر لتكديس أعداد كبيرة من الطلبة الصغار في الصف الدراسي الواحد بحيث تتجاوز أعدادهم في بعض الأحيان الـ50 طالباً.
- سوريا: مدارس متهالكة وتسرب للمعلمين
المتابع لنشاط وزير التربية السوري دارم طباع في وسائل الإعلام التابعة للنظام، سيواجه صعوبة بالغة في الربط بين صور جولاته في مدارس نموذجية في تجهيزاتها وانضباط طلابها ورقي كادرها التدريسي، وبين الواقع المزري لمئات المدارس الحكومية، لا سيما على أطراف المدن وفي الأرياف البعيدة عن الرقابة، حيث مدارس حوّلتها سنوات الحرب والإهمال إلى ما يشبه الحظائر، كأماكن غابت عنها أدنى شروط السلامة والنظافة. ناهيك عن أزمة المواصلات التي تهدد العشرات منها بالإغلاق لعدم تمكن المدرّسين من الوصول إليها كما حصل في عدة قرى بريف حماة الشرقي.
ولعل الواقع المتردي للتعليم ليس أشد ما ينتظر مستقبل سوريا التي يتناهب جغرافيتها صراع أفرز ثلاث مناطق نفوذ لكل منها منهاج تعليمي يعزز آيديولوجيا القوى المسيطرة.ففي مناطق النظام، هناك تنافس إيراني - روسي على التغلغل في قطاع التعليم، عبر فرض تعليم اللغة أو إعادة تأهيل المدارس أو افتتاح المدارس الخاصة.وفي مناطق النفوذ التركي، يتعزز التغلغل الثقافي عبر تمويل المنظمات التعليمية ما بين توجهات غربية وتوجهات عربية وتركية إسلامية.
أما في مناطق السيطرة الكردية، فيحتدم التنافس إلى حد الاصطدام بين القوميتين الكردية والعربية.أرقام منظمة «اليونيسف» تشير إلى أن واحدة من أصل ثلاث مدارس خرجت عن الخدمة بسبب الحرب في سوريا.ومن أبرز تحديات التعليم في مناطق سيطرة النظام إعادة تأهيل الأبنية المدرسية المتضررة التي بلغ عددها، وفق الإحصائيات الحكومية 8700. منها أكثر من 450 بناءً دُمر بشكل كامل، تم إعادة تأهيل عشرات المدارس بالتعاون مع منظمات وجهات دولية. إلا أن المدراس التي عادت إلى الخدمة لا تكفي لاستيعاب 3 ملايين و600 ألف تلميذ في مناطق النظام، ونحو 400 ألف في مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا.
وأشارت أرقام «اليونيسف» إلى أن ثلث الأطفال السوريين في مرحلة التعلم، هم خارج المدرسة، أي أكثر من مليوني طفل. فيما يواجه 1.3 مليون طفل خطر التسرب بسبب ظروف الحرب التي تجعل ما نسبته واحداً من ثمانية أطفال في كل صف دراسي، في حاجة إلى دعم نفسي واجتماعي تخصصيّ.منذ اندلعت الحرب عام 2011. باتت بداية العام الدراسي موعداً لتجدد معاناة الأهالي، بارتفاع تكاليف التعليم إلى حدٍ يفوق القدرة الشرائية بعدة أضعاف. إذ تبلغ تكلفة تجهيز تلميذ التعليم الأساسي في المدارس الحكومية نصف مليون ليرة سورية (ملابس، قرطاسية، كتب)، ولم يفلح قرض النصف مليون ليرة الذي منحته الحكومة في دمشق للموظفين هذا العام، في تخفيف وطأة التكاليف لدى الأسر التي لديها أكثر من تلميذين.
ومع ذلك، يبقى خيار التعليم الحكومي الأنسب، مقارنة بالأرقام الباهظة لتكاليف التعليم الخاص.في مناطق المعارضة، ساهمت الحرب في ازدهار الاستثمار في التعليم الخاص، لتكون حلاً باهظ التكاليف لمن استطاع إليه سبيلاً من ميسوري الحال. إذ بلغ عدد مؤسسات التعليم الخاص المرخصة في إدلب ضمن مناطق المعارضة، نحو61 رياض أطفال، و53 مدرسة ابتدائية، و39 مدرسة إعدادية، و12 مدرسة ثانوية، و15 مركزاً لغوياً. علماً بأن التدريس في إدلب ومناطق السيطرة التركية، هو باللغة العربية، كما أن المناهج في تلك المناطق وضعتها السلطات المحلية.
أما في الحسكة، شمال شرقي سوريا، فأعلنت هيئة التربية والتعليم لدى «الإدارة الذاتية» الكردية التي تسيطر على المنطقة، في خريف عام 2020 اعتماد ثلاثة مناهج تعليمية للتدريس ضمن مناطق نفوذها في الأقاليم الشمالية، بينها منهاج أقرته «اليونيسف» لرعاية الأطفال.وتتوزع المناهج المعنية على منهاج «الإدارة الذاتية» باللغة الكردية، في مدارس أقاليم الجزيرة والفرات ولنازحي عفرين في مناطق ومخيمات الشهباء بريف حلب، إلى جانب مخيمات النازحين.أما الثاني، فهو منهاج التربية الرسمي، في المجمعات التربوية ومدارس مدينة منبج وريفها وبلدة العريمة المجاورة. فيما أقرت منظمة «اليونيسف» تدريس منهاجها في مدينة الطبقة ومحافظة الرقة ومدن وبلدات ريف دير الزور الشرقي، الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، بعد احتجاجات أهلية رفضت تدريس مناهج الإدارة الذاتية.
- لبنان: التعليم الرسمي في قلب المعاناة
يعيش قطاع التعليم الرسمي في لبنان، أسوأ مراحله، حيث تحوّل الطلاب المنتسبون إلى المدارس والمعاهد والجامعات الحكومية إلى ضحايا، بفعل ضياع الأعوام الدراسية، تارة جرّاء الإضرابات المتلاحقة للمعلمين والتي تفاقمت مع الأزمة الاقتصادية التي بدأت في العام 2019. وطوراً جرّاء جائحة «كورونا» التي فرضت إغلاقاً تاماً أو جزئياً لهذه المؤسسات.وبخلاف الهجرة القسرية لتلامذة المدارس والجامعات الخاصة إلى المؤسسات التربوية الرسمية، هرباً من غلاء الأقساط وفقدان القدرة لدى أوليائهم على استكمال التعليم الخاص، يشهد العام الدراسي هجرة معاكسة باتجاه القطاع الخاص، لتجنّب موجة الإضرابات المفتوحة التي حرمت الطلاب عامين دراسيين متتاليين، وأفقدت القطاع الرسمي مستواه المعهود.
وأفادت مصادر مطلعة في وزارة التربية والتعليم العالي، بأن «المدارس الخاصة تستقطب الآن الطلاب بشكل واسع حتى وصل الأمر ببعضها إلى تخطي قدرتها على الاستيعاب». وأشارت المصادر لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «آلاف الطلاب دفعوا ثمن إقفال مدارسهم وجامعاتهم، تارة تحت تأثير إضراب الأساتذة احتجاجاً على تدني قيمة الرواتب، وتارة أخرى بحجة إجراءات الحظر التي سببتها جائحة كورونا». وما يشجّع على العودة المعاكسة، الإغراءات التي تقدمها بعض المدارس الخاصة، سواء تلك التابعة للأحزاب، أو الرهبانيات والإرساليات التي لديها دعم خارجي.
وأشارت المصادر إلى أن ثمة مدارس خاصة «لا يتعدّى قسط الطالب السنوي الـ300 دولار و10 ملايين ليرة لبنانية (ما يوازي 220 دولاراً)، ويفضّل الأهالي تحمّله، بدلاً من إضاعة العام الدراسي على أبنائهم». واعترفت المصادر بأن «القطاع التعليمي الرسمي لا يزال في قلب المعاناة، رغم محاولات إنقاذه سواء من الدولة أو الجهات المانحة». ويرفض أساتذة التعليم الرسمي تحميلهم مسؤولية الإخفاقات التي حصلت في الأعوام الماضية، ويؤكدون أن «سياسات الحكومات المتعاقبة المالية والاقتصادية والفساد، هي التي أوصلت البلد إلى الانهيار، بما فيها القطاع التربوي».
وقال مدير التعليم الثانوي في وزارة التربية اللبنانية خالد فايد لـ«الشرق الأوسط»، إن الوزارة «مصرّة على إنقاذ التعليم الرسمي من الإخفاقات التي شهدها في العامين الأخيرين».ويسعى أساتذة التعليم الرسمي إلى مصادر دخل يعوّض جزءاً من خسارتهم، ولا يتردد المئات منهم في الانتقال إلى التعليم الخاص طمعاً في تقاضي جزء من الرواتب بالـ«فريش دولار». إلّا أن كثيراً منهم عاد سريعاً إلى التعليم الرسمي.
- السودان: التعليم مأساة الفقر
غادر محمد جمعة، وهو طفل سوداني في الثانية عشرة من عمره المدرسة، وخرج إلى الشارع لعلّه يجد ما يسد رمقه ويساعد به والده على إعالة بقية أسرته وأشقائه.محمد ليس سوى نموذج واحد لأزمة التعليم في السودان. فمثله الملايين، مما ينبئ بكارثة تهدد أجيالاً بكاملها، في ظل عجز حكومي مطبق عن توفير شروط الحصول على تعليم للأطفال، رغم أن القانون السوداني ينص على إلزامية التعليم الأساس.
وتأثر سير العملية التعليمية في السودان، وفقاً للخبراء، بادئ الأمر بجائحة «كورونا»، ثم بعدم الاستقرار السياسي والأمني الذي رافق الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق عمر البشير، وتدهور الأوضاع الاقتصادية الشديد الذي نتج عن «انقلاب» 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. وزادت السيول والفيضانات التي ضربت البلاد ودمّرت آلاف المدارس الأوضاع سوءاً، واضطرت السلطات لتأجيل العام الدراسي لأكثر من مرة.
قالت منظمة «اليونيسف» إن نحو 7 ملايين طفل سوداني لا يذهبون إلى المدرسة، وأن هناك طفلاً واحداً من كل ثلاثة لا يذهب إلى المدرسة، فيما لا يحصل أكثر من 12 مليون طفل على فرصة لتلقي تعليم «جيد».وانتقدت المسؤولة عن «اليونيسف» في السودان مانديب أوبراين بشدة تدهور الأوضاع التعليمية في البلاد. وقالت: «لا يمكن لأي بلد تحمل عبء عدم معرفة ثلث أطفاله الذين في سن الدراسة مبادئ القراءة والكتابة، أو الحساب والمهارات الرقمية، فالتعليم ليس مجرد حق، إنه أيضاً شريان حياة». ودعت «اليونيسف» السلطات إلى القيام بإجراءات عاجلة تتضمن زيادة الإنفاق من أجل تقديم الخدمات الاجتماعية بما في ذلك التعليم. وتشكل نسبة قطاع التعليم في الموازنة السودانية نسبة ضئيلة، وهي لم تتعد الـ1 في المائة في موازنة عام 2021 من 12.5 في المائة سابقاً.
- طلاب فلسطين مهددون بالقتل والاعتقال
في نهاية عام 2022. خرج الطفل الفلسطيني ريان سليمان، (7 أعوام)، من بلدة «تقوع» في بيت لحم إلى مدرسته كما كل طفل في العالم، محمّلاً بأدعية والديه، لكنه عاد إليهما مع نهاية الدوام المدرسي، جثة هامدة، بعدما فشل من الفرار من جنود إسرائيليين كانوا يطاردون طلاب مدارس في المنطقة أثناء عودته.العملية التعليمية بكل مكوّناتها، المدارس والجامعات والمناهج والطلاب، طالما كانت ضحية الممارسات الإسرائيلية على مدار عقود وجوده على الأراضي الفلسطينية، ودفعت أثماناً باهظة على جميع المستويات، التربوية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية في الضفة والقدس وقطاع غزة.كل ذلك فيما تستمر الحرب البديهية على المنهاج الفلسطيني في القدس.
وقال وزير التربية والتعليم الفلسطيني، مروان عورتاني: «إن مشكلة فلسطين لا تتركز في عدد المعلّمين أو التمويل، ولكن في كيف أننا سنضمن العدالة وتكافؤ الفرص لجميع شرائح المجتمع الفلسطيني والطلاب».وأشار عورتاني إلى وجود معوقات خارج نطاق وزارته، على سبيل المثال في المناطق التي لا توجد فيها سلطة كاملة. وهذه المناطق تشكل أكثر من 60 في المائة من فلسطين، كما لا توجد ولاية حقيقية لدولة فلسطين في القدس.
في غزة، الصورة ليست أفضل، بحسب عورتاني، حيث تسببت الحرب بهدم مدارس، كما أن البيئة المدرسية تشوبها أجواء من العنف والقلق. وشنت إسرائيل هجومها في مايو (أيار) من عام 2021 في ذروة فترة الامتحانات النهائية في المدارس. وأضر القصف بـ132 مدرسة ونحو 55 من رياض الأطفال. أما عدد الطلاب الذين قتلتهم إسرائيل فكان 77 من طلبة المدارس، أو طلبة مراحل عليا في الجامعات.وفي أغسطس (آب) الماضي، كانت غزة مع هجوم مباغت وسريع تسبب ضرراً لـ46 مدرسة حكومية، ومبنيين لمديريتي تعليم شمال وغرب غزة.
ولا تشمل الأرقام المدارس التي تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا».وآثار تدمير المدارس في غزة قد تكون أطول منها في الضفة الغربية، باعتبار أن القطاع التعليمي يُعاني في الأساس من قلة المدارس بسبب الحصار الإسرائيلي على غزة ومنع إدخال مواد البناء.وقال المدير العام لوحدة العلاقات العامة والتعاون الدولي في التربية والتعليم في قطاع غزة أحمد النجار: «إنه في مكان آخر كان يجب أن ينهار كل شيء، ولكن ليس في قطاع غزة... تخيّل أن طالباً في الصف السادس عاش 3 حروب ودُمرت مدرسته وفقد أصدقاءه، لكنه يجتهد ويواصل».ولا تستثني إسرائيل الفلسطينيين في القدس من حربها الواسعة ضد التعليم. ففي الشهر الماضي، امتنع نحو 100 ألف طالب في 150 مدرسة عربية في القدس عن العمل رفضاً لمحاولات الحكومة الإسرائيلية فرض المنهاج الإسرائيلي أو جزء منه كبديل للمنهاج الفلسطيني في معركة مستمرة منذ سنوات حول الرواية التاريخية.
- تونس: مزاحمة حادة من التعليم الخاص
تجاوز عدد التلاميذ في المراحل الابتدائية والأساسية والثانوية في تونس حدود المليونين و300 ألف تلميذ، وهو ما يمثل قرابة 20 في المائة من إجمالي السكان.غير أن درجة الرضا عن أداء التعليم في تونس باتت مهزوزة نتيجة عوامل عديدة، معظمها مرتبط بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. إذ تعاني المؤسسة التربوية من صعوبات على مستوى البنية الأساسية، ونقص المربّين لعدم القدرة على انتداب المزيد منهم لما يخلفه ذلك من تبعات مالية.وتطرح الأزمة التي تعرفها المدرسة العمومية تساؤلات عدة حول مستقبل التربية والتعليم في تونس، في ظل المنافسة الحادة التي تلقاها المنظومة العمومية من قبل المؤسسات الخاصة التي تسجل استقراراً على مستوى أدائها التعليمي وانتظام الدروس وندرة الإضرابات والتحاق المدرّسين الأكفاء وأصحاب التجربة بالقطاع الخاص.
وللتأكيد على عمق هذه الأزمة، كشفت دراسة أجرتها وزارة التربية التونسية حول الخريطة المدرسية، أنّ عدد المدارس الابتدائية الخاصة تضاعف ثلاث مرّات في خمس سنوات، ويبلغ حالياً 566 مؤسسة يؤمها أكثر من 90 ألف تلميذ تفتح أبوابها أمام قرابة 8769 مدرّساً.وخلال السنوات الأخيرة، بات التحصيل العلمي السنوي ضعيفاً، نتيجة كثرة الاحتجاجات، وكانت النتيجة أن نحو 100 ألف طفل يغادرون المدارس كل سنة، من دون التسلح بمهارات أو معارف قادرة على إدماجهم في المجتمع، مما يزيد مخاطر الانحراف والجريمة وتشغيل الأطفال الصغار، والبحث عن الهجرة عبر قوارب الموت.
قد يهمك ايضاً